عندما فشل أبناء مديرية «الغيل» قبل 20 عاماً، في الوصول إلى اتفاق على كيفية تصريف مياه السواقي، حكّموا البندقية.
مذاك والقتل يتسيد المشهد هناك، وانتعشت تجارة السلاح، ودبت الحركة في المقابر
الأسبوع الماضي زارت «النداء» مديرية الغيل في محافظة الجوف وبدا لافتاً تصميم المنازل فيها، منها طينية تفنن الرصاص في إحداث نقش من الثقوب على جدرانها وأخرى اسمنتية دائرية تبدو للوهلة الأولى كتلة صماء.
هناك الحرب تفرض قانونها على نمط الحياة، وصارت مهندساً معمارياً جردت المنازل من النوافذ واعتمدت ثقوباً صغيرة خصصت لأفواه البنادق لقنص الخصوم، وهي مبان قوية شيدت كي تصمد أمام أي اعتداء وصمم أسطحها بحيث تصبح متاريس حصون ويطلق عليها «النوب» أي القلاع.
أنت في «الغيل» أنت في ساحة معركة، هكذا شعرت. فيها يمكنك أن تشهد الوجه الآخر لثورة والوحدة. في «الغيل» مسقط رأس والد المشير عبدالله السلال أول رئيس لليمن شمالاً تغيب الدولة المزعومة، ويحضر الخراب وثقافة القتل.
الحرب فيها تجري بين قاطني المنازل المتجاورة؛ منازل متلاصقة وأخرى يفصل بينها أقل من عشرة أمتار لكن المعارك تدور بينها.
الجميع يحمل في منزله أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة. ورغم تلويحهم باستخدام الثقيلة كلما انتعش قانون القتل، فإن عشرات الضحايا من الاطفال والنساء والرجال سقطوا بواسطة الاسلحة الخفيفة. وطبقاً لأبناء المديرية، فإن خلافاً نشب قبل 20 عاماً حول مصب المياه الجارية في السواقي.ولم يصل أبناء المنطقة إلى حل ما أدى إلى مواجهات بالرصاص ومقتل العشرات منهم وتحولت مع الأيام إلى معارك مستمرة أزهقت أرواح 25 فرداً وأصيب العديد.
وكانت المعارك تشهد فترات تهدئة ما تلبث أن تتجدد. بفض الصلح الذي قام به بعض الخيرين وامتدت المعارك في «الغيل» قرابة 13 عاماً استطاعت تقويض كل مظاهر الحياة، لكن منذ سبع سنوات أخذت النزاعات منحى تهديئياً مع بعض المناوشات المتفرقة، وأزيلت المتاريس واختفت الحواجز والحصون من سطوح المنازل.
يطلق أبناء الغيل على مديريتهم «القرية الحمراء» منذ أن توقفت الحرب لطلاء نوافذ المنازل الجديدة وأبوابها وأسطحها بمادة طينية حمراء.
تشتهر المديرية بتربية الابقار ويوجد بها منابع مياه تصرّف إلى زراعة النخيل والأعلاف وقد نضب العديد منها. ومؤخراً تعاني الغيل نقصاً حاداً في المياه الصالحة للشرب ويصل سعر الوايت الماء إلى 10 آلاف ريال، وأشار أبناء المديرية إلى وجود بئر مياه واحدة صالحة للشرب يتقاسم ماءها أبناء مديريات: الغيل، الحزم، المصلوب، الخلق. فضلاً عن مكتب ديوان المحافظة وألوية عسكرية.
ويقطن في الغيل قبائل وفخوذ عدة منهم: آل سالم، المحابين، آل جودة، الأشراف، الحتارية.
***
«السلام».. مدرسة المحاربين
الجوف - مبخوت محمد
لم يتبق من الدفعة الاولى التي تخرجت من الثانوية في مدرسة السلام عام 1993، سوى نصف العدد. لقد أثبتت النزاعات تعطشها لدماء الشبان المتعلمين.
محمد جسار يتحسر على زملائه الذين أجهزت الحرب عليهم: «كنا عشرين طالباً حصلنا على شهادة الثانوية ونحن أول دفعة تتخرج من المدرسة لكن النزاعات قتلت 10 منا».
جسار الذي صار يدير مدرسة السلام في مديرية الغيل بمحافظة الجوف منذ العام 1997، يصب اللعنات على الثأر الذي وصفه بـ«قاتل أبنائنا».
شيدت مدرسة السلام من الطين في منتصف الثمانينات من القرن الماضي وهي أكبر مدارس المديرية وكانت تضم حينها 100 طالب وطالبة من مختلف المراحل الدراسية.
عندما اندلعت نزاعات الثأر في مديرية الغيل قبل 20 عاماً وتحولت باحات المنازل ومزارع المنطقة وطرقها مسرحاً للمواجهات، كانت هناك حرب أخرى تنشب في ساحة المدرسة وخارجها بين أبناء المتحاربين. يقول جسار متذكراً: «كان الطلاب يترامون بالحجارة ويعملون مناوشات وتحدث إصابات وتحديداً بين طلاب الصف الواحد وكنا نشعر أن المدرسة تحولت إلى ميدان آخر للصراع وكثيراً ما كانت المدرسة تغلق.. وبدأت الكراهية تزداد بين الطلاب وتحولوا إلى أعداء وزاد الأمر تعقيداً حين بدأ الطلاب الصغار يحملون السلاح وذخائر الرصاص تغطي معظم أجسادهم».
وأضاف: «حملوا السلاح بدلاً عن القلم والكتاب».
كانت القذائف تسقط على مقربة من المدرسة والاعيرة النارية لم تتباطأ في إحداث ثقوب في مبنى السلام الطيني ولم يكن أمام معلمي المدرسة السودانيين سوى النجاة بأرواحهم. وفروا إلى مديرية الحزم.
ليست النزاعات وحدها التي أثرت على مدرسة السلام، إذ كان يبادر العديد من الأشخاص لتوقيف المدرسة وطرد المعلمين، وحسب جسار: «منهم من يريد عرقلة التعليم ومنهم يهدف إلى الحصول على مدرسة لقبيلته».
بعض الطلاب توقفوا عن الدراسة وآخرون انتقلوا إلى مدارس أخرى والكثير منهم توقفوا نهائياً عن الدراسة بسبب نزاعات الثأر وتوقيف المدرسة.
جسار أفاد بأن عدد المرات التي توقفت فيها الدراسة تتجاوز ال100 مرة وتحديداً أثناء أداء امتحانات الشهادة النهائية.
وأوضح أنه خلال العام الماضي توقف عملية ترميم المدرسة أكثر من 50 مرة من قبل شخصيات قبلية.
إلى حروب الثأر واغلاق المدرسة، يشكو جسار من نقص في عدد المعلمين وتحديداً في التخصصات العلمية، وقال إن مادة الرياضيات لم تدرس ومثلها الأحياء والعلوم والانجليزي فضلاً عن أن نفسية الطلاب ليست جاهزة لاستيعاب الدروس، بل لكيفية الرماية وحمل الذخيرة: «كيف يمكن الاستفادة والذهن شارد والسلاح والكتاب باليد الأخرى؟!».
خلال السنوات ال10 الماضية لجأ بعض شخصيات المديرية إلى فرض غرامات على كل من يعتدي على المدرسة وطلابها وصلت إلى 100 ألف ريال، واعتماد سياسة «التهجير» لتحريم المساس بالمدرسة ومنتسبيها خصوصاً بعد إصابة أحد المعلمين برصاص من قبل شخص على خلاف معه.
وطبقاً لـ«جسار»: «بعد التوقيع على هدنة قبل سبع سنوات تم إعادة بناء مدرسة السلام بشكل حديث، وتضم الآن 200 طالب و100 طالبة و15 معلماً و9 فصول مع المرافق والمطلوب هو أن يصل أولياء الأمور إلى قناعة حول أهمية الدراسة وحث أبنائهم على مواصلة التعليم».
غير أن نبرة صوته أفقدت حماستها حين شرع يتحدث عن تجهيزات المدرسة: «دور مكتب التربية ضعيف وهذا أثر على إقبال الطلاب، فالسلام أكبر مدرسة في المديرية لا يوجد فيها إذاعة ولا معمل ولا وسائل تعليمية وتعاني من نقص في الكادر التدريسي والتخصصات العلمية و15 مدرساً غير كاف». مطالباً بتفعيل دور مجلس الآباء والمجلس المحلي بالمديرية وأن تقوم إدارة التربية بتوفير المعلم والكتاب والمعامل.
قبل شهرين كانت «الغيل» على موعد مع أصوات الرشاشات وقذائف الآربيجي على خلفية اشتباكات بين الأمن وجماعة الحوثيين وتعرضت بعض المنازل لأضرار منها منزل «جسار»: «سقطت إحدى القذائف أمام المدرسة لكنها لم تنفجر وهي موجودة لدى أحد المعلمين».
***
الحوثيون يطلقون الرصاص نحو السماء طلباً للمطر
هادي: سألبي داعي القبيلة خير من أن أقتل مجاناً داخل المدرسة
كنت أجري حواراً صحفياً مع «يحيى هادي» على سطح منزله. كان الشاب يحمل على كتفه كلاشنكوف و3 خزائن رصاص على ظهره، وفجأة دوا المكان بأصوات الرصاص والقذائف ورأيت «هادي» يقفز من السطح،كان المشهد مخيفاً. أخذ صوت الرصاص يزداد دوياً لكنه اختلط بصرخات النسوة.
من السطح شاهدت عشرات النسوة يتدافعن والاطفال وحاملي السلاح في أزقة الحي واتجهوا صوب مصدر الرصاص، وظللت في سطح المنزل لا أعلم ما الذي حدث.
بعد نصف ساعة عرفت من «يحيى هادي» أن أتباع الحوثي أطلقوا الرصاص صوب السماء تضرعاً إلى الله كي ينزل المطر.
بالنسبة لـ«يحيى هادي» لا فرق لديه أن يكون طالب علم أو غراماً يحمل السلاح «كلها عندي سوى» وأكد أن استجابته لداعي القبيلة سيكون في المقدمة حال قرن بداعي العلم.
وأوضح «ما الفائدة؟ كلما حدثت مشاكل نتعطل عن الدراسة ونعيش في رعب والمدرسون يهربون والمدرسة تتعرض لإطلاق نار وأنا أفضل أن أدافع عن قبيلتي أفضل من أن أقتل مجاناً داخل المدرسة».
***
النزاعات انتزعت شقيقه وقذيفة رشاش قتلت أعز أصدقائه
لم يكن القلم والدفتر رفيقي علي محسن عوان الوحيدين إلى المدرسة، لقد استحوذ الخوف وتحذيرات الوالدين على المساحة الأكبر من ذهنه طيلة سنوات دراسته السابقة.
أما الآن وقد صار شاباً فتياً، فإن البندقية هي رفيقته الوحيدة «لا نهتم بالمذاكرة لأن النجاح مضمون» قال عوان لـ«النداء».
تزدحم ذاكرة عوان الذي انتقل للصف الثالث الثانوي العام الفائت، بتفاصيل مثيرة تعود لأيام دراسته الأولى «شاهدت الموت أمامي وأنا راجع من المدرسة ما دريت الا والرصاص من كل مكان وسقطت كثير منها أمامي».
هو شاهد عدداً من زملائه يسقطون قتلى ومصابين في ملعب المنطقة عقب إطلاق نار من بندقيات خصوم لهم: «هربت بسرعة وإلا كنت واحد من المقتولين».، ويروي تفاصيل دارت في فصله الدراسي قبل 6 سنوات حين رفض مدرس سوداني السماح لهم بالمغادرة، وطلب منهم إكمال الدرس: «صاحبي أخذ حجر ورجم الباب بقوة والمدرس يكتب على السبورة واحنا صحنا رصاص رصاص.. الحرب.. وما درينا إلا والمدرس يفتح الباب ويخرج قبلنا من الصف وضحكنا وخرجنا بعده».
عوان يشكو من فرط حيوية ذاكرته وتعذر عليه نسيان بعض المواقف المؤلمة: «مات أعز أصدقائي بقذيفة رشاش عيار 23 لم تنفجر، كان يلعب بها فانفجرت فيه ومات صاحبي وجرح 6 آخرون وأصيبت أمرأتان».
النزاعات أنتزعت شقيق عوان العام الماضي. هو يستبعد أن تتجدد المعارك في الغيل بعد أن فقدت معظم الأسر العديد من أبنائها.
***
مبخوت طالب الصف السابع
اتهم المدرسين بالإهمال وتمنى الشهادة في سبيل الله
قد يكون «مبخوت علي» 15 عاماً، محظوظاً حين التحق بالدراسة بعد توقيع الهدنة قبل 7 سنوات بين الأطراف المتقالتة، غير أنه وزملاءه يواجهون مشكلة من نوع أخر سببها وزارة التربية والتعليم.
فالشاب الذي انتقل العام الفائت إلى الصف السابع يشكو من نقص المدرسين ويتهمهم: «غير مهتمين بالتدريس» قال مبخوت وأضاف «الدراسة عندنا ما نستفيد منها، لا كتب، والمدرسين قليل».
يضطر مبخوت حال حدثت مشكلة بين أبناء القبائل، للتخلف عن الذهاب إلى المدرسة «نكون خائفين ولا أروح المدرسة إلا بعد أن نسمع أنهم اصطلحوا».
لمبخوت أمنية في الحياة عندما سألناه عنها ظل متردداً وبعد زجرة من زميل له لقنه «قل الشهادة». فقال «الشهادة»، وحين طلبت التوضيح «هل شهادة: الثانوية، الجامعية،...»؟، وبصوت هادي «في سبيل الله».
الحرب كمهندس معماري للمنازل.. ساقية ماء تحول «الغيل» إلى ساحة للمعارك منذ 20 عاماً
2008-07-31