عدالات غائبة وتقسيمات راسخة وانقسامات مستدامة (1)
* حدود الدوائر الانتخابية غير دستورية، وشرعية البرلمان المقبل رهن بإعادة التقسيم
* إسقاط شرط ال5 ٪_ في مشروع التعديلات الدستورية، يؤشر إلى استشعار السلطة جسامة الخرق الدستوري
* تحولت حدود الدوائر إلى حدود نهائية، وخلال 16 سنة تجاهلت القوى السياسية حقيقة إخلال التقسيم بالمواطنة المتساوية
سامي غالب
Hide Mail
الحكم الصالح يتوسل الشرعية الشعبية (الرضا) عبر تحقيق عدالتين: اجتماعية، ومكانية. وحكم الـ«صالح» يواصل استنزاف شرعيته الدستورية بتقويض العدالة الانتخابية.
النظام الانتخابي السائد منذ الاستفتاء على دستور دولة الوحدة 1991 هو نظام الأغلبية النسبية (دائرة فردية صغيرة). تقرر النظام بنص دستوري لم تمتد إليه يد «التطوير الديمقراطي» التي مثَّلت بدستور دولة الوحدة مرتين عقب حرب 1994. لماذا؟ ببساطة لأنه نظام انتخابي غير عادل، تنصب عوائده في خزينة السلطة عبر أداتها الانتخابية (المؤتمر الشعبي العام).
نظرياً يحقق هذا النظام الاستقرار السياسي، وهذه أبرز مزاياه التي تدفع الديمقراطيات الراسخة إلى التشبث به، حتى وإن تطلب الأمر التضحية بالقليل من العدالة.
في اليمن، بما هي ديمقراطية ناشئة معتلة، تمَّحي ميزات هذا النظام، وتحضر مثالبة فقط. فاستقرار النظام السياسي منعدم لضعف تمثيلية النواب للإرادة الشعبية. تجلى ذلك في صعدة حيث تستحوذ السلطة على جميع مقاعد المحافظة منذ 1997. وفي الجنوب حيث حصدت السلطة أغلب مقاعد هذه المحافظات، (كما ومقاعد المجالس المحلية)، وهذه إشارة على الفجوة التي ظهرت عقب أول انتخابات نيابية (1993)، وحاول الشريك الشمالي ردمها (!) بالحرب في صيف 1994، لكنها واصلت تمددها، دورة انتخابية تلو أخرى، حتى صارت الحاضنة الكبرى للأزمات الوطنية والحروب الداخلية.
في المحصلة النهائية فإن التضحية ببعض العدالة لم تجلب الاستقرار إلى النظام السياسي، فدوام الحاكم في القصر لا يعني شيئاً سوى الركود السياسي، أو الانهيار. وبدلاً من «القليل من الظلم والكثير من الاستقرار»، حصدت اليمن «الكثير من الظلم والقليل من الاستقرار» أو «القليل من العدالة والكثير من الفوضى».
***
علاوة على الأزمات والحروب الداخلية وتآكل الشرعية لم ينجز النظام الانتخابي واحدة من أهم وظائفه، وهي إفراز معادلة سياسية متوازنة تقوم على كتلتين سياسيتين كبيرتين تتمثلان في البرلمان بتفاوت محدود، وتتبادلان السيطرة على أغلبية مقاعده كل دورتين أوثلاث. فالشاهد أن التجربة اليمنية تسير في الاتجاه المعاكس... في اتجاه نظام الحزب الغالب (حزب سلطة الغلبة)، حيث تستأثر الأداة الانتخابية للسلطة أو واجهتها السياسية بأربعة أخماس (80٪_) مقاعد البرلمان، تاركة الخمس (!) لآل البيت المعارض. وفي حال واصل الاتجاه العام لتوزيع المقاعد البرلمانية خطه المتصاعد منذ 1993 -وهذا هو المرجح- فإن حصة المعارضة في البرلمان القادم ستنحسر إلى السدس (أي دون ال50 مقعداً).
هذه محض قراءة كمية، قراءة سطحية، قراءة «قشرية» لا تبلغ النواة، حيث الوزن النسبي للبرلمان داخل النظام السياسي إلى اضمحلال، اضمحلال يليق ببرلمانيين يفتقرون إلى الحد الأدنى من التأهيل والكفاءة والتمثيل.
***
من مزايا النظام الحالي البساطة. لكن انتخابات برلمانية قبلوية الأحكام في واقع اجتماعي متأخر حضارياً ويحتكم إلى قيم الغلبة والغزو (الانتخابي)، حولت «الممارسة الديمقراطية» إلى عملية همجية، مكلفة مالاً ودماً، كما جعلت مواسم الانتخابات مواسم شرور وأخطار وميادين للحروب الوجودية داخل الدوائر الانتخابية.
فقدت الانتخابات، وفق النظام الحالي، وظيفتها الديمقراطية. صارت أكبر عامل تحريف ضد تقدم اليمن سياسياً، مثلما أنها عامل التحفيز الأول للدعوات المناطقية والانقسامية. ولكي تستعيد الانتخابات وظيفتها يتوجب أن يكون تغيير نظامها أولوية قصوى، وحجر أساس لأي حوار بين السلطة والمعارضة.
***
العدالة الانتخابية تتقوض، لا بفعل النظام الانتخابي فحسب، وإنما بفعل التقسيم الانتخابي.
اليمنيون محكومون بهدر أعمارهم في البديهيات. لا غرابة في اليمن من أن تثار أسئلة حول مدى دقة نتائج التعداد السكاني، وما إذا كان الرئيس علي عبدالله صالح تدخل شخصياً لتقرير عدد السكان المقيمين (في اليمن)، وهل حقاً أن الأخطاء القديمة (في تعدادات سكانية سابقة) تحولت في ظل الحكم الـ«صالح» إلى حقائق.
أياً ما تكون الإجابات، فالثابت أن البرلمان الحالي منقوص الشرعية، وسيكون الأمر كذلك لأي برلمان قادم يتم انتخابه طبق التقسيم الانتخابي الحالي الذي يعود إلى خريف 1992. سنتذاك تم وضع حدود الدوائر الانتخابية بناء على اسقاطات احصائية لنتائج تعدادي السكان في شمال اليمن (1986) وجنوبه (1988).
في ظروف الانتقال إلى نظام دولة الوحدة (90-1993) تم سلق التقسيم الانتخابي للدوائر طبق تفضيلات سياسية في المقام الأول. لكن ذلك لم يحل دون تدخل عوامل قبلية واجتماعية. ولئن كان ذلك مفهوماً في تلك اللحظة الفاصلة في مسيرة الدولة الوحدوية، فإن التطورات اللاحقة أكدت كارثية القفز على التفاصيل بإسم القضايا الكبرى، أو لتمرير تفاهمات سرية.
والحاصل أن النظام والتقسيم الانتخابيين، تكرسا بعد حرب 1994، الأول بدعوى النص الدستوري، والآخر بزعم الواقعية. وبفضلهما تضاعفت غلة الأداة الانتخابية للسلطة من 41٪_ من مقاعد البرلمان (1993) إلى 80٪_ (2003). وبهما تم تحجيم القوى السياسية المعارضة، وتحديد سقوفها مركزياً، ما أدى إلى تجميد المجال السياسي، وتنشيط الانقسامات الراسية داخل المجتمع اليمني.
***
بعد انتخابات 1993، أجري تعدادان سكانيان في 1994و 2004. والتعدادان كشفا نقيصتين في العملية الانتخابية: الأولى فداحة التزوير في السجل الانتخابي، فقد ظهر أن عدد المسجلين الذكور في بعض الدوائر الانتخابية، يتجاوز عدد الذكور في سن الانتخاب (18 سنة وأكثر)، وهذه حالة مستحيلة التحقق في أية ديمقراطية، ناشئة كانت أم عريقة؛ والثانية، أن التقسيم الانتخابي للدوائر غير عادل، لأن القوة التصويتية للمواطنين غير متساوية، ما يعني تجاوز الدستور (المادة 63) الذي ينص على الاقتراع المتساوي، وتقسيم الجمهورية إلى دوائر انتخابية متساوية من حيث السكان مع التجاوز عن نسبة 5٪_ زيادة أو نقصاناً.
***
مطلع إبريل 2005 أثارت «النداء» مسألة شرعية بقاء التقسيم الانتخابي دون تعديل على الرغم من نتائج التعداد السكاني الأخير 2004، التي تؤكد عدم واقعيته. وقد رد أعضاء في اللجنة العليا للانتخابات بأن التقسيم الحالي لا يتمثل الدستور، لكن إعادة النظر فيه مؤجله إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية والمحلية، على اعتبار أن التقسيم الانتخابي يخص البرلمان، لا الرئاسة ولا المحليات.
في 11 إبريل 2005 أقرت اللجنة العليا للانتخابات تنفيذ مشروع نظام المعلومات الجغرافية (GIS)، لتيسير عملية التقسيم الانتخابي الجديد. كما كلفت نائب رئيس اللجنة ورئيس القطاع الفني ببحث تفاصيل المشروع مع الخبير الكندي جون لندري مدير مشروع المساعدة الدولية للانتخابات التابع للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في اليمن.
نظام (GIS) الكتروني، ويسهِّل عملية إجراء تقسيم انتخابي جديد عبر تغذيته بالبيانات والمحددات التي تعتمدها اللجنة الانتخابية. وكانت منظمة ايفس المتخصصة في دعم الانتخابات إحدى الجهات المتحمسة لمساعدة اليمنيين على تحقيق السلامة لانتخاباتهم العامة. وقد أوصت في 20 ابريل 2005، بضرورة إعداد جداول انتخابية جديدة بناء على تقسيم جديد للدوائر الانتخابية.
آيفس، التي تعمل في اليمن منذ التسعينات، وأجرت عامي 2004، 2005 دراسة معمقة لمعوقات العملية الانتخابية في اليمن، أوصت أيضاً بعدم اعتبار مكان العمل موطناً انتخابياً. كما أبدت حينها استعدادها لتزويد اللجنة العليا للانتخابات بالخبرة اللازمة لتطبيق نظام المعلومات الجغرافية (GIS).
لاعتبارات عديدة فضلت اللجنة العليا للانتخابات ترحيل فكرة التقسيم الانتخابي إلى مابعد الانتخابات الرئاسية. على أن مسؤولين في اللجنة قالوا حينها لـ«النداء» إن حدود الدوائر الحالية «ترسخت بقوة الواقع، حتى أنه يصعب المساس بها».
أجريت الانتخابات الرئاسية والمحلية. وفي العام 2007 حانت ساعة الحقيقة بإعادة النظر في حدود الدوائر تجسيداً للدستور، وتحقيقاً للعدالة الانتخابية. لكن اللجنة لم تقم بواجبها. وحسب مصادر «النداء» فإن بعض المنظمات الدولية المعنية بدعم العملية الديمقراطية في اليمن، لم تخف استياءها من تجاهل المعنيين الأصليين بالانتخابات لواجباتهم في ضمان دستورية الانتخابات النيابية المقبلة. ومعلوم أن هذه المنظمات قدمت مساعدات فيما يخص التجهيزات والتدريب خلال الأعوام الماضية لإنجاز التقسيم الجديد. لكنها اضطرت مؤخراً إلى شطب بند التقسيم الانتخابي من أجندتها لأن «أهل السلطة أدرى بشعاب اليمن»!
أهدرت الحكومة واللجنة العليا للانتخابات والأحزاب المعارضة فرصة أخرى لتأمين سلامة الانتخابات، فيما يشبه التواطؤ بينها على تأبيد التقسيم الانتخابي، واعتبار حدود الدوائر نهائية، خشية الحساسيات السياسية والاجتماعية والنزاعات الحدودية، لكأن اليمن منظمة الوحدة الافريقية.
***
في الحوار على الانتخابات بين السلطة والمعارضة، تقدمت المعارضة بمطلب تغيير النظام الانتخابي من نظام الأغلبية النسبية (الحالي) إلى نظام التمثيل النسبي (القائمة). تم ترحيل هذا البند من أجندة الحوار لأن تغيير النظام الانتخابي يتطلب تعديل المادة 63 من الدستور، وهذا أمر غير ممكن في اللحظة الراهنة كما يقول الرئيس ومساعدوه. قبلت المعارضة هذه الذريعة البائسة، وقدمت مشروع قانون جديد ارتكازاً على النظام الحالي، ما أظهر عدم جاهزيتها التفاوضية، وميلها الحاد والمرضي إلى الواقعية، التي باتت تعني الحوار طبق أجندة السلطة.
هذا «التنازل الاستراتيجي» للمشترك لم تقدره السلطة التي ما لبثت أن دفعت في توقيت شديد الحساسية بمشروع تعديلات دستورية إلى مجلس الشورى. واللافت أن التعديلات تشمل (ببركاتها الوافرة) نص المادة 63، فقد تم شطب نسبة ال5٪_ التي يحددها الدستور النافذ كنسبة تجاوز مسموح بها عند التقسيم الانتخابي، وأحيل تحديد النسبة البديلة إلى القانون. وأياً يكن الغرض من هذا التعديل، وبتحييد كافة العوامل الأخرى ذات الصلة بسلامة الانتخابات، فإن مشروعية البرلمان المقبل رهن بتقسيم انتخابي جديد، حتى وأن تابعت أحزاب المشترك سلوكها الواقعي وقبلت حصة الخمس من المقاعد.
يتبع
عدالات غائبة وتقسيمات راسخة وانقسامات مستدامة (1)
2008-07-24