جغرافيا الحرب الخامسة
* معارك في تخوم العاصمة والقتلى بالمئات
* لا إخلاء للجثث في بعض مناطق القتال، و10٪_ من الجرحى مصابون بالصمم
* المعارك مستمرة في بني حشيش وحرف سفيان، ومخاوف من بؤر جديدة في سنحان وخولان
ملف أعده: عبدالعزيز المجيدي - بشير السيد
مواجهات خارج ساحة 4 حروب
خلافاً للحروب الأربع السابقة اتسع نطاق الحرب الأخيرة الدائرة بين أتباع الحوثي والقوات الحكومية ليشمل مناطق تابعة لمحافظتي عمران وصنعاء.
منتصف مايو الفائت دوت لأول مرة أصداء انفجارات المواجهات بين الجانبين في أنحاء متفرقة من العاصمة.
وقد كانت منطقة بني حشيش التي لا تبعد عن صنعاء بأكثر من 20 كيلو متراً، ميداناً لمعارك شرسة بين مجاميع مسلحة تابعة للحوثي وقوات الحرس الجمهوري تشارك لأول مرة في الحرب.
قبل ذلك كانت المواجهات على أشدها في مديرية حرف سفيان التابعة لمحافظة عمران التي أطلقت أول شرارة انفجار للحرب الرابعة.
باندلاع الحرب الأخيرة مطلع مايو، كان عبدالملك الحوثي القائد الميداني للجماعة المسلحة يتوعد بنقل المعارك إلى مناطق «حساسة» خارج صعدة.
وقد عكست المواجهات الدائرة في مناطق: حرف سفيان، وبني حشيش جزءاً من وعيد الحوثي الابن وسط تصاعد السجالات الاعلامية بينه وقيادات الجيش والسلطة.
طبق المعلومات التي حصلت عليها «النداء» فإن المخاوف من اندلاع المواجهات تشمل مناطق «حساسة» كسنحان وخولان، والأولى شهدت تحركاً لافتاً خشية تنفيذ هجمات من قبل متعاطفين مع الحوثي في المنطقة.
خلال الحروب التي بدأت أولاها منتصف 2004 بين جماعة حسين بدر الدين الحوثي ولاحقاً أبيه وأخيه، اقتصرت المواجهات على مديريات محافظة صعدة.
وقبل اشتعال الحرب الرابعة منتصف 2007 كانت الجغرافيا تمنح المواجهات ساحة إضافية: منطقة حرف سفيان التابعة لمحافظة عمران، حينها كانت جبهة صعدة هادئة وتمكنت وساطات قبلية من احتواء الموقف بعد إسقاط عناصر تابعة للحوثي طائرة مروحية في منطقة واسط. لكن المواجهات سرعان ما عادت لتشتعل في صعدة فدونت وقائع النسخة الرابعة من الحرب.
الآن تدخل مواجهات الحرب الخامسة شهرها الثاني أصبح معها مدى سلاح جماعة الحوثي أكثر قرباً من العاصمة.
ووسط مشهد المساجلات أطل يحيى الحوثي الاثنين، داعياً إلى إسقاط النظام رداً على تحريك السلطة ورقة إسقاط الحصانة البرلمانية عنه.
***
عشرات القتلى وضحايا الجيش يسقطون بالخطأ
«حرب سفيان»
"النداء" - صنعاء
عمران - محمود طه
يسيطر الخراب بشكل كامل على مدينة حرف سفيان التابعة لمحافظة عمران بعد مواجهات دامية.
بالإضافة إلى رائحة البارود تفوح رائحة الموت بكثافة، وبدلاً من كنس الشوارع اضطر عمال النظافة نهاية الاسبوع الفائت إلى «تنظيفها» من قرابة 70 جثة تعود لمدنيين حسب شهود عيان، ودفنها.
تشهد المديرية الأكبر في محافظة عمران حرباً منذ مطلع مايو الفائت. في المدينة التي تمثل مركز المديرية ويقطنها أكثر من 20 ألف نسمة دارت أشرس المعارك بين القوات الحكومية وأتباع الحوثي.
عندما بدأت المناوشات بين الجانبين تدشيناً للحرب الخامسة أرسلت القوات الحكومية تعزيزات إلى صعدة، وقد استخدمت منطقة شبارق كمنطقة عبور.
وقتها قرر الحوثيون قطع الطريق بالإضافة إلى محاصرة اللواء 119 الواقع في الجبل الاسود والمشرف على المديرية. ودخلت الجماعة إلى مركز المديرية. لم تفلح وساطات قبلية في احتواء التداعيات، فاندلعت المواجهات بين الجانبين عقب تحذير أطلقه قائد اللواء 119 بإخلاء المدينة ونهاية المهلة المحددة.
خلال الأسبوع الاول والثاني من المواجهات قتل العشرات من العسكريين وأتباع الحوثي.
بحسب مصادر محلية وعسكرية فقد قتل 45 عسكرياً من العائدين من التقاعد بعد تعرضهم لقصف بالطيران عن طريق الخطأ عندما كانوا متحصنين بمبنى المجمع الحكومي.
وسقط 15 عسكرياً بتبادل لإطلاق النار بين أفراد اللواء 119، و117 مشاة عن طريق الخطأ. بعد إنسحاب الحوثيين، الخميس الماضي من المدينة خلفوا وراءهم عشرات الجثث من رفاقهم بعضها نهشتها الكلاب حد رواية شهود عيان.
تقدر المصادر عدد المقاتلين من أتباع الحوثي في حرف سفيان ب500 مسلح وقد تركزت المواجهات المستمرة حتى الآن في مناطق: ذو طالع، ذو كزمة، المربعة، وادي شبارق، الوقبة، المجزعة، حدقة وواسط الثنثلة.
أكثر الاسلحة استخداماً من قبل الحوثيين: قذائف الآربي جي، القناصات بالاضافة إلى الرشاشات الثقيلة.
وشهد اليومين الماضيين مواجهات متقطعة بين مجاميع قبلية مسلحة في منطقة ذو كزمة ومناطق متعددة في الثنثلة مع مقاتلين حوثيين. ولم يتسن معرفة عدد الضحايا وخسائر الطرفين. في صعدة استمرت المواجهات خلال الاسبوع الجاري في منطقة وادي مذاب مديرية آل عمار المتاخمة لمديرية حرف سفيان، وسقط العديد من القتلى والجرحى في غارة جوية على قافلة سيارات يعتقد أنها تابعة للحوثيين مساء الثلاثاء.
وقالت المصادر المحلية إن الغارة استهدفت عدداً من السيارات شرق منطقة شبارق كانت متجهة إلى حرف سفيان ما أدى إلى سقوط (عدد غير معروف بين قتيل وجريح على الطريق).
وقتل الأحد الماضي ثلاثة من قبائل العصيمات وجرح 11 آخرين في مواجهات مع أتباع الحوثي أثناء محاولتهم تحرير مدير عام مديرية آل عمار من الأسر لدى الحوثيين.
واشتدت المواجهات على مداخل مديرية ضحيان بين الحوثيين وقوات الجيش.
وقالت المصادر إن القوت الحكومية دمرت عدداً من المنازل بالدبابات والجرافات بينها منزل عبدالله بن يحيى القعود أحد القادة الميدانيين لجماعة الحوثي.
***
نصف ساعة بالسيارة وبضع ثوان بالقذيفة
بني حشيش في خط النار
تحتاج السيارة إلى أقل من نصف ساعة للوصول إلى مديرية بني حشيش، وبضعة ثواني فقط يحتاجها سكان الأحياء الشمالية من صنعاء لسماع دوي المواجهات المسلحة بين الجيش والحوثيين.
لأكثر من أسبوعين ترددت أصوات القذائف وقصف الطيران في أطراف العاصمة. وشعرت صنعاء للمرة الأولى بالحرب التي ظلت أخباراً تأتي من أقصى الطرف الشمالي للبلاد. لقد شهدت المديرية التي لا تبعد عن العاصمة أكثر من 20 كيلو متراً مواجهات شرسة بين مجاميع مسلحة تتبع الحوثي وقوات تخوض الحرب للمرة الأولى تتبع الحرس الجمهوري الذي يقوده أحمد علي عبدالله صالح.
عشية ال14 من مايو الفائت بدأت شرارة المواجهات في المنطقة عقب تعرض مدير أمن العاصمة العميد محمد طريق لكمين مسلح نصب له في منطقة بيت السيد.
وقد نجا القائد الأمني من الكمين فيما قتل اثنين من الجنود المرافقين. واتهمت عناصر تابعة للحوثيين بالوقوف وراء الحادثة.
بحسب المعلومات المتوافرة، فإن المنطقة الامنية بالحتارش تلقت معلومات عن استعدادات عسكرية لأتباع الحوثي في المنطقة. على إثره جاء نزول مدير الأمن طريق الى المديرية رفقة بعض مشائخها.
يقطن المديرية أكثر من 75 ألف نسمة، بحسب مصادر محلية، وتتكون أغلبها من المناطق الجبلية والوديان حيث تزرع العنب وتقع شمالي صنعاء.
في محاولة للإنقضاض على المجموعة المسلحة أرسلت قيادة قوات الحرس الجمهوري لواءً عسكرياً للزحف على المنطقة.
وخاضت القوات العسكرية مواجهات عنيفة، مازالت مستمرة حتى مساء الثلاثاء، مع الجماعة التي تراوحت تقديرات عددها بين 500 و1000 مسلح.
وقد استخدم في المواجهات مختلف أنواع الاسلحة بما في ذلك الطيران وتكرر إعلان السلطات إحكام السيطرة على المديرية وتصفية عناصر الحوثي منها خلال الاسبوع.
الثلاثاء الماضي أعلنت وزارة الدفاع السيطرة على المديرية وتصفية (كافة أوكار عناصر الفتنة والتمرد).
وصباح أمس الثلاثاء قال محافظ صنعاء نعمان دويد إن القوات المسلحة أكملت سيطرتها على المديرية بنسبة 100٪_ لكن المواجهات خلال الاسبوع ظلت مشتعلة.
وقالت مصادر محلية لـ«النداء» إن القوات الحكومية لم تستطع الدخول إلى المديرية، وتفرض سياجاً عليها لمنع تسلل الحوثيين من وإلى المنطقة.
المصادر ذكرت أن المواجهات هدأت الثلاثاء بعد أن شنت القوت الحكومية الاثنين هجوماً ضد الحوثيين المتمركزين في وادي رجام بعد انسحابهم من جبل الجميمة الاستراتيجي مستخدمة طائرات الهيلوكابتر.
واستدعت قيادة المنطقة الأمنية في الحتارش وجهاء المنطقة الذين تعهدوا بالقيام بحماية مناطقهم ومواجهة الحوثيين.
وقال المصدر إن المنطقة الأمنية ألزمت أبناء المديرية بوضع حدود لمناطقهم وطلبت منهم حمايتها من دخول جماعة الحوثي.
ونشرت وكالة الأنباء الرسمية سبأ صوراً لمجاميع قالت إنهم من المقاتلين الحوثيين في بني حشيش استسلموا للقوات الحكومية. وقالت المصادر المحلية إن الأفراد الذين ظهروا قبض عليهم من قبل رجال القبائل وتم تسليمهم للقوات الحكومية.
وفيما قال نعمان دويد إن منازل المواطنين لم تصب بأذى، قالت المصادر إن العديد من منازل المواطنين ومزارعهم ومعداتهم دمرت بالكامل جراء القصف.
وذكرت أن قرية غضيران الواقعة على الطريق إلى المديرية دمرت منازلها بالكامل أثناء تمشيط الجيش، ولم يكن بها أي من أتباع الحوثي.
ينتمي جميع المقاتلين إلى مناطق المديرية، وتلقى العديد منهم تعليماً دينياً في المدارس التي تبنتها جماعة الشباب المؤمن، بحسب المصادر.
منذ يومين تسير المعارك بشكل مختلف: أثناء النهار تميل الأجواء إلى الهدوء وتبدأ المناوشات ليلاً سيما في مناطق الشرية وأطراف الرجاع.
مساء الأحد استولت مجموعة مسلحة على طقم عسكري في منطقة الشرية وأسرت 2 من جنوده بالاضافة إلى مبلغ 6 ملايين ريال مرتبات الجنود مرابطين في احد المواقع بحسب مصدر محلي.
يتحصن الحوثيون في مناطق جبلية، ولديهم الكثير من المؤن الغذائية، طبق معلومات المصدر، كما يتمركزون في شعاب وادي الشرية وهي منطقة محاطة بالجبال ويصعب الوصول إليها.
وقد أقامت القوات الحكومية نقاطاً أمنية في منطقة غولة عاصم وبيت ناصر الحاج إلى الشمال الشرقي من المديرية لمنع تسلل الحوثيين من جهة نهم.
***
300 قتيل في شهر وأكثر من 2100 قتيل منذ بدء الحرب
تحصد الحرب المشتعلة في صعدة وعدد من مديريات عمران وصنعاء العشرات من المدنيين والعسكريين بين قتيل وجريح يومياً. وعلمت «النداء» من مصادر طبية و عسكرية أن عدد القتلى من طرف الجيش على جبهات القتال في صعدة وحدها بلغ 300 قتيل وأكثر من ضعفهم جرحى منذ تجدد المواجهات مطلع مايو الماضي.
وذكرت المصادر أن عدد الجثث التي تعود لجنود وترد إلى صنعاء من أرض المعارك لا يقل يومياً عن 5 مع 7 إلى 10 جنود جرحى، فضلاً عن الحالات التي يتم نقلها إلى مستشفيات قريبة كمستشفى السلام بصعدة.
وتفرض السلطات الرسمية تكتماً شديداً بالنسبة لضحايا الجيش الذين يسقطون في المواجهات مع أتباع الحوثي وهو ما يسلكه الحوثيون في التعامل مع خسائرهم. وطبق المعلوما التي حصلت عليها «النداء»، فإن عدد القتلى الذين سقطوا في صفوف الجيش خلال الحروب السابقة منذ أندلعت منتصف 2004 أكثر من 2100 قتيل، فيما لم تذكر عدد المصابين. ولم تتوافر معلومات بشأن الضحايا المدنيين الذين يسقطون بفعل المواجهات الأخيرة بين الحوثيين والجيش، فيما تمنع السلطات الصحافة المحلية والخارجية من النزول الميداني إلى المناطق التي شهدت الحرب.
***
رفد الوحدات القتالية ب600 سائق وفني
علمت «النداء» أن معسكر التأمين الفني بأمانة العاصمة، سيرفد بعد يومين الوحدات القتالية في محافظة صعدة ومنطقتي بني حشيش وحرف سفيان ب300 سائق ومثلها فنيين.
وقالت مصادر عسكرية إن الوحدات القتالية التي تخوض معارك ضارية مع جماعة الحوثيين تعاني نقصاً في صفوف السائقين والفنيين، ما انعكس على تأخير الإمدادات والمؤن، فضلاً عن نقل المصابين.
أضافت أن معسكر التأمين أعلن السبت الماضي فتح باب الإلتحاق بالجيش لمن يجيدون السواقه وكذا خريجي المعاهد الفنية، ومن المقرر أن يصل الاربعاء عدد الملتحقين إلى 600 وهو العدد المطلوب.
***
قبيل وصول اللواء 115 إلى المحافظة
مواجهات مستمرة بين أمن الجوف ومسلحين يعتقد أنهم حوثيون
- مبخوت محمد
قالت مصادر محلية إن مدير مديرية الغيل بمحافظة الجوف تبادل إطلاق النار مساء الأحد الماضي مع مجموعة يعتقد أنها من أتباع الحوثي وإصابة أحد الأهالي قبل أن تتمكن تلك الجماعة من الفرار.
وأضافت أن الحوثيين من أبناء المحافظة وتحديداً المقيمين في منطقة الساقية، نصبوا نقاط تفتيش على الطريق المؤدي إلى منطقتهم.
وتأتي هذه الحادثة بعد أسبوع من قيام مجموعة مسلحة محسوبه على الحوثيين بمهاجمة معسكر السلام التابع للأمن المركزي بمديرية المصلوب ومقتل جندي وإصابة آخر.
وأخذت المواجهات تتوالى مؤخراً بين أتباع الحوثي وأفراد الأمن الأمر الذي اعتبره كثير من أبناء المحافظة مؤشراً لانتقال المعارك بين الجيش والحوثيين إلى الجوف.
وتشهد كثير من النقاط الأمنية في العديد من مديريات الجوف عمليات هجوم مستمر من قبل جماعة مسلحة تتهم بانتمائها لجماعة الحوثيين.
وسبق أن لقي مدير أمن مديرية المطمة حتفه في حادثة تبادل إطلاق النار مع مجموعة مجهولة يعتقد أنها من أتباع الحوثيين وأفاد مصدر عسكري أن المحافظة ستستقبل خلال الأيام القادمة اللواء 115 مشاه الذي سيحل محل اللواء التاسع. ولم يفصح المصدر عن الواجهة التي سينتقل إليها.
***
المستشفى العسكري بصنعاء
حركة نشطة لاستقبال المصابين وجثث القتلى
10 ٪_ فقدوا السمع وحديثو التجنيد أصيبو بصدمة نفسية
مساء اليوم الثاني من مايو الفائت، جلس «نور الدين» أمام شاشة التلفاز يتابع تطورات الوضع في صعدة وتجدد المواجهات بين الجيش والحوثيين.
وحين استيقيظ صباح اليوم التالي، شرع بإلغاء المواعيد التي سبق أن حددها لمرضاه، وأبلغهم بانشغاله خلال الأيام القادمة.
إذ صار الطبيب الجراح «نور الدين» 52 عاماً، يدرك مقر عمله الجديد كلما تجددت المعارك شمال البلاد، ومذاك يوظب نور الدين (اسم مستعار) في المستشفى العسكرى بأمانة العاصمة.
لكن هذه المرة تسنى لـ«نور الدين» الإلتقاء بالعشرات من زملاء المهنة: «في كل المعارك التي دارت بين الجيش والحوثيين، يتم تفريغ من 8 إلى 15 طبيباً وإرسالهم إلى هنا- المستشفى العسكري- بحسب الحاجة لكن هذه الحرب كبيرة ووصل عددنا (الأطباء) إلى أكثر من 40 طبيباً من خارج المستشفى». قال «نور الدين» وزاد: «اغلبنا جراحين والبعض أخصائين عظام وحوالي 6 جلد و2 أطباء نفسيين».
مع اندلاع أي حرب، يصبح الأطباء جزءاً من أدواتها، وتغدو المستشفيات العامة والعيادات المتنقلة رفقة الجنود في ميدان المعركة أشبه بمصنع إعادة إنتاج السلع المستهلكة.
يرى «نور الدين» أن ما يقوم به وزملاؤه واجب وطني وإنساني وقال: إذا لم نشعر بالمسؤولية في هذه الظروف فلسنا أطباء».
منذ اندلاع الحرب في صعدة، منتصف 2004، شهد المستشفى العسكري بأمانة العاصمة، حركة نشطة على الدوام، ارتكزت على استقبال الجنود المصابين وتطبيبهم في أقسام: الطوارئ، العمليات، المجارحة، واستقبال جثث الجنود في ثلاجة المستشفى.
أيضاً شهد المستشفى فترات خمول متقطعة إجمالاً لا تتجاوز أيامها الشهرين في السنة، وخلالها يحظى منتسبو المؤسسة العسكرية -غير المقاتلين بصعدة- بفرصة معاينة وعلاج مجاني.
طبقاً لمصادر طبية، حقق المستشفى أعلى رقم قياسي خلال الأربعة الأسابيع الفائتة، في عدد المصابين والجثث التي استقبلها، وأن الإصابات هي الأخطر من تلك التي خلفتها الحروب السابقة بين الجيش والحوثيين، وأن المستشفى صار يستقبل يومياً 3 أضعاف الحالات التي كان يستقبلها سابقاً.
كل مؤشرات المستشفى العسكرية تقول إن الحرب الراهنة هي الأكثر شراسة، المؤشرات أيضا تسلط الضوء على ميادين القتال الأكثر عنفاً في هذه الحرب. فإلى تضاعف الأرقام: الأطباء، المصابين، القتلى، وميزانية المستشفى أيضاً تضاعفت، فإن 70٪_ من الحالات الواصلة للمستشفى قادمة من منطقة بني حشيش ومنظقة حرف سفيان بمحافظة عمران، فيما30٪_ فقط من الحالات نقلت من صعدة.
ووصفت المصادر الطبية حالة مصابي الأخيرة بالأفضل (تعذر الحصول على إحصائية بعدد الحالات) وقالت إن 1 من عشرة -أصيبوا في المعارك التي دارت في بني حشيش و حرف سفيان- أسعف إلى المستشفى وهو فاقد السمع، ومثلها مصاب بصدمة نفسيه، وأضافت أن الغالبية من الذين فقدوا السمع أوأصيبوا بصدمة نفسية شفوا.
في حالة فقد السمع أوضحت المصادر أنها بسبب قربهم من مكان الانفجارات، فيما الغالبية من الذين أصيبوا بصدمة نفسية هم من حديثي التجنيد.
***
باحة جنائزية
في الصباح الباكر تكتظ الباحة الخارجية للمستشفى العسكري بأمانة العاصمة، بالرجال والنساء والأطفال أيضاً.
بعضهم جاءوا للتأكد من صحة خبر مشؤوم عن مقتل قريب له، وآخرين تجاوزوا لحظات التمني، هم هنا لاستلام جثة حبيب قتل أثناء تأدية "الواجبـ" في حرب الحكومة والحوثيين.
إلى المشهد الجنائزي المطبق على رؤوس المتجمعين، تحفل الباحة صباح كل يوم بأصوات ونانات سيارات الإسعاف التابعة لقوات الجيش وهي تغادر بوابة المستشفى صوب إحدى المقابر لدفن قتلى «الواجب»، لحظتها تكون ونانات أخرى يشق صفيرها طريقه نحو المستشفى وما أن تطل على الباحة حتى تكون بوابة المستشفى قد فتحت والمتجمعون أخذوا يتدافعون نحوها وتحديداً اولئك الذين يتمنون عدم صحة الخبر المشؤوم.
عقب تجاوز سيارات الإسعاف بوابة المستشفى وإختفائها عن الأنظار، يشرع أحد جنود البوابة بتفريق المترقبين، وإبعادهم عن البوابة.
هذا المشهد غدا روتيناً يومياً منذ تجددت المواجهات بين قوات الجيش والحوثيين مطلع مايو الفائت.
تتيح زيارة المستشفى العسكري رصد المعركة من جانب واحد. لكن كل من يعملون في محيط المستشفى يجمعون على أن هذه المعركة كبيرة وفقاً لرصدهم حجم الحركة التي يشهدها المستشفى عبر تدافع سيارات الإسعاف المحملة بالمصابين والجثث.
هم أيضاً يجزمون أن المستشفى تلقى مؤخراً دعماً سخياً، وقالوا: هذه هي المرة الأولى التي تستقبل فيه المستشفى حالات كثيرة، لكن حركة البيع والشراء خفت لديهم عكس الحروب السابقة التي كانت فيها حالات الإصابة قليلة، لكنها تحدث حركة نشطة في تجارتهم.
في الجهة المقابلة للمستشفى تقف سيارات عديدة، كثير منها هي لأقرباء مصابين، أطباؤهم قرروا مغادرتهم بعد تلقيهم العلاج، غالبيتهم كانت أصابتهم في الأطراف.
***
بانتظار خبر «جميل»
تتطلع أسرة المساعد جميل مهيوب الشُعبي إلى رؤية ولدها حياً رغم أنها استقبلت العزاء فيه منذ أسبوع.
عند كل رنة هاتف يخفق قلب شقيقه ماجد بأمنية وحيدة قد تأتي من الطرف الآخر: «حصَّلنا جميل». لكن المكالمة المنتظرة لم تأت بعد، ويخشى أن لا تأتي أبداً.
حتى الخميس ال22 من مايو الفائت، كان جميل الذي يعمل في دائرة سلاح المهندسين موجوداً في صنعاء لقضاء إجازته.
المقيل الأخير قضاه صحبة أصدقائه وبعض معارفه. كان مستمتعاً بتبادل الحديث معهم. قرابة الخامسة مساءً من نفس اليوم تلقى أمراً من كتيبته بالعودة فوراً. لابد أن الوجهة هي صعدة حيث عادت الحرب المدمرة مرة أخرى.
«حاول إقناعهم بأنه في إجازة وأنه موجود في تعز فقالوا له إنهم يعرفون أنه في صنعاء وأمروه بالعودة -يقول أحد أصدقائه لـ«النداء».
ربما كان يفكر بزيارة عائلته بتعز حيث رزق بطفلة منذ أسبوعين، لكنه لم يستطيع الإفلات من «صعدة».
بعد خمسة أيام فقط تحول جميل 36 عاماً إلى خبر صادم لأسرته وزوجته: تلقت بلاغاً من أحد زملائه يفيد بمقتله.
عندما لجأت أسرة الشُعبي للدائرة التي يتبعها لم تقدم جواباً حاسماً، ووضعت احتمالين أمام المفجوعين: إما أنه جريح أو قتل.
واستمرت الأنباء المتضاربة تقصف الأسرة من الجهات المعنية.
«اليوم التالي اتصلوا قالوا: عظم الله أجرك»، قال شقيقه ماجد الموجود في صنعاء لـ«النداء».
وأضاف: طلعنا صنعاء إلى المستشفى العسكري بحثنا في الثلاجات ولم نجد الجثة.
عندما تلقت الأسرة الخبر، خارت قواها «الجهال والكبار يبكوا والبيت مخبوط خبيط»، وفق حديث ماجد عن صدمة أسرته. استقبلت الأسرة العزاء في حارة المساعد المفقود بتعز، بينما ظلت الأنباء تتواتر على نحو مربك.
أخيراً وقفت الدائرة على توصيف لمصير جميل: إنه مفقود.
ليس معروفاً على وجه الدقة حتى الآن ما إذا كان المساعد العديني جريحاً أو مقتولاً أو أسيراً: المؤكد أنه كان مع اثنين من رفاقه يقود عربة نقل عسكرية محملة بالامدادات في الطريق إلى صعدة. بحسب معلومات الدائرة فإن العربة تعرضت لكمين في منطقة حرف سفيان على يد عناصر تابعة للحوثي.
ما يبعث الأمل مجدداً للأسرة أن أحد زملائه (مصاب) أبلغهم أنه رآه حياً بعد تعرضهم لإطلاق النار قبل أن يغمى عليه.
ولدى الدائرة المعنية معلومات أن جميل فقد مع 4 آخرين، 3 منهم يتبعون لواء المجد، والمرجح أنهم أسرى.
لكن مصير المساعد الذي يخدم في الجيش منذ أكثر من 15 عاماً ما يزال محض تخمينات.
ثمة شيء فاصل تنتظره الأسرة عن مصير جميل. سينتفض ماجد فرحاً إذا جاء النبأ: «حصلنا جميل» إنه الخبر الوحيد الذي يبقيهم على أمل.
***
جثة "نصار" ترابط في حيدان
لم يعد ينتظر "مروان" الإطلالة الحيوية لشقيقه الجندي "نصار"، بل جثته.
منذ الجمعة الماضي يواظب الشاب على زيارة المستشفى العسكري بصنعاء. لقد تلقت أسرته خبر مقتله. وهو يحاول معاينة الخبر بين قوائم الجثث القادمة من ميدان المواجهة مع أتباع الحوثي بصعدة.
صباح الاثنين كان "مروان" يقضي يوما جديدا أمام المستشفى، في مضمار البحث عن "نصار"/ الجثة.
عندما توقفت سيارة تابعة للجيش محملة بجثث عدد من الضحايا في الجهة الخلفية من المستشفى، هرع "مروان" إليها وقد اقترب منها محرر "النداء".
كانت الجثث مراكمة بعضها فوق بعض. تأكد "مروان" من الكشف المرفق مجددا. إن "نصار" قد قُتل، لكن جثته ليست بين هذه الجثث المكومة.
قبل سبع سنوات التحق نصار محمد عبدالسلام الشرعبي بالجيش، وقُدِّر له أن يلتحق باللواء 17 في الخوخة بالحديدة. وقد انتقل بعدها إلى جزيرة حنيش مع أفراده. أمضى فيها قرابة ثلاثة أعوام.
باندلاع حرب صعدة منتصف 2004 بين القوات الحكومية وأتباع حسين الحوثي قررت القيادة العسكرية للمنطقة نقل اللواء إلى جبهة القتال: صعدة.
خاض الشاب جميع المواجهات خلال الحروب السابقة. وكتبت له الحياة، فيما سقط الكثير من زملائه.
قبل أن تعود المواجهات بين الجيش وأتباع الحوثي كان "نصار" قد بدأ خطوته الأولى نحو الزواج: الخطوبة.
وبالنسبة لجندي يرابط في أكثر مناطق المواجهة شراسة بين الجانبين فإن تحقيق الخطوات اللاحقة تصبح محل شك.
يوم الجمعة الماضي تلقت الأسرة النبأ المصيبة: ربما قتل نصار.
على الفور تحرك الفزع في أسرته. "اتصلت بأحد زملائه في صعدة، وهو تأكد من قائد الكتيبة، ومنه علم أن نصار استشهد في أحد جبال حيدان"، يقول مروان.
انتقل بعض أقارب الجندي القتيل إلى صنعاء. كانت وجهتهم المستشفى العسكري. لكنهم لم يجدوا الجثة.
بعد متابعة قائد الكتيبة الذي ما يزال مرابطا في صعدة تلقت الأسرة الجزء الثاني من المصيبة: ما تزال جثة نصار في الجبل وتعذر على الكتيبة إخلاؤها.
بينما تضاعفت آلام والدته، المريضة بانزلاق في العمود الفقري، يواضب مروان يوميا على زيارة المستشفى العسكري، عله يجد "نصار" بين جثث أخرى تفد يوميا.
"هناك جثث كثيرة في المواقع لم تستطع القوات المسلحة أخذها ومضى عليها أكثر من 15 يوما بسبب حصار الحوثيين"، قال لمروان أحد عناصر الأمن أثناء محاولته التخفيف عنه.
***
مساعٍ لإحياء الوساطة القطرية - ثالثة ومنقحة
محمد الغباري
مثلما عنونت زيارة والده باتفاق للتنقيب عن الآبار، حرص الجانب الرسمي على القول باقتصار المباحثات التي أجراها ولي عهد قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بوضع حجر الأساس للمشروع السياحي العقاري «الريان» إلا أن ما تسرب من المعلومات عن اللقاء، الذي جمع الشاب الذي رعا الاتفاق الثاني لوقف اطلاق النار في صعدة، مع الرئيس علي عبدالله صالح تؤكد اتفاق الطرفين على إحياء الوساطة القطرية ولكن على أسس جديدة تتجاوز العقبات التي ظهرت عند البدء بتنفيذها في المرحلتين السابقتين. ومع اشتداد ضراوة المعارك في صعدة تحديداً وامتدادها إلى مديرية بني حشيش ومديرية حرف سفيان، عاد الحديث من جديد عن برنامج تنفيذي ثالث لاتفاق الدوحة الذي أعلن عنه قبل ما يزيد على عام، ومعه كانت المعارك أقل ضراوة عن الأيام السابقة.
عندما نجحت قطر في إقناع الجانب الحكومي وأتباع الحوثي بالتوقيع عندما على أتفاق وقف إطلاق النار الأول وكان المفاوضون فيه هما د/ عبدالكريم الإرياني المستشار السياسي لرئيس الجمهورية ويحيى الحوثي الذي وصف بالمتحدث عن أتباع أخيه في الخارج، اصطدم بالخلافات حول إخلاء مواقع المتمردين في جبل عزان الذي يتحكم بمنطقتي «مطرة» و«نقعة» مركز قيادتهم، وعندما جُمع الطرفان من جديد لوضع برنامج تنفيذي جديد للاتفاق، كانت هناك ملاحق غير معلنة في البرنامج ظهر ميما بعد أنها ظلت سرية لأنها تحمل أسباب فشلها؛ حيث اصطدم من جديد بمطالب إخلاء المواقع المحيطة بمركز قيادة التمرد، وبموضوع المعتقلين البارزين من أتباع الحوثي.
وفي حين أن الدوحة لم تعلن رسمياً فشل وساطتها؛ إذ تجددت المعارك فيما كان ممثلوها في محافظة صعدة، إلا أن اتساع رقعة المواجهات واكتسابها بعداً اجتماعياً ومذهبياً، وارتفاع عدد القتلى والجرحى بشكل كبير، قد يشكل فرصة جديدة لدولة قطر لاستئناف مساعي الوساطة لأن الجانبين باتوا الآن يدركون خطورة استمرار المواجهات التي بدأت تنكأ جراحاً قديمة وتفتح الأبواب أمام صراع إقليمي على الساحة اليمنية.
وحسب مصادر عليمة، فإن الاتصالات القائمة اليوم بين المسؤولين القطريين واليمنيين تنصب على مناقشة العراقيل التي أدت إلى تفجر الحرب من جديد، ووضع معالجات مُرضية للطرفين، بعدما شاع لدى السلطات أن استمرار قبولها باتفاق وقف إطلاق النار كان بمثابة تنازل للحوثيين، والقول أنها تسعى لاحراز أكبر قدر من التقدم على جبهات القتال حتى تضمن التزاماً غير مشروط من الحوثيين بتنفيذ أي اتفاق جديد لا يعطي انطباعاً بأنها كانت في الموقف الأضعف.
وإن كان واضحاً أن السعودية قد غادرت موقف المتفرج إزاء الحرب المتواصلة في خاصرتها الجنوبية منذ أربعة أعوام، فإن نجاح الدوحة في ابرام اتفاق المصالحة اللبنانية وحرصها على استيعاب الرؤية السعودية للحل من ذلكم الأتفاق قد يساعد أيضاً في استنساخ طبعة ثالثة ومنقحة لاتفاق وقف اطلاق النار في صعدة يستوعب المخاوف السعودية والإقليمية مما يعقد أنه مخطط لإنشاء جيب شيعي في أقصى شمال اليمن.
ومع استمرار الحوثيين في التأكيد على أن لا أهداف سياسية لحركتهم وقولهم إنهم لا يمتلكون إلا مشروعاً ثقافياً ويريدون ممارسة شعائرهم بحرية فقط، تستحضر النشرات الصادرة عنهم فكر المقاومة المسلحة للنفوذ الامريكي في المنطقة، ويحرصون على وصف القوت الحكومية «بالعدو» والرئيس صالح بعميل الولايات المتحدة.
نشرة «بشائر النصر»، و«الحقيقة» تتحدثان عن وعد الله لهم باعتبارهم مؤمنين بالنصر، كما تتحدثان عن الانتصارات والغنائم التي كسبها المجاهدون «الحسينيون» في صعدة، وتحددان ساحة المواجهة بالمساحة التي يصطلح على تسميتها «المنطقة الزيدية» وهو أمر يزيد من تعقيدات المشكلة؛ إذ ترى الرياض أن مثل ذلك المشروع يستهدف أمنها واستقرارها، فيما بدت الولايات المتحدة أكثر قلقاً حيال الاستقرار الداخلي مع ظهور بؤر للمواجهة بالقرب من العاصمة لأن من شأن الأيديولوجيا التي يعتنقها الحوثيون وتهديدهم بنقل المواجهات إلى قلب العاصمة زعزة أمن بلد هو في الأصل يعاني من عدم الاستقرار.
ووفق دبلوماسيين غربيون، فإن استمرار المواجهات وبهذه القوة والعنف، إلى جانب الاحتقان السياسي في المحافظات الجنوبية، سيزيد من حجم التحديات التي يواجهها حكم الرئيس علي عبدالله صالح، وأن ذلك سيؤدي على المدى القصير إلى شيوع حالة من الفوضى ليس باستطاعة المجتمع الدولي ولا دول الخليج تحمل نتائجها.
ويرى هؤلاء أن السعودية ومعها الولايات المتحدة لن تقبلا بفكرة انهيار الدولة، لكنهم ستعملان على مساعدة الحكم في إنجاز اصلاحات سياسية تساعد على امتصاص حالة الاحتقان الشعبي، كما ستوظفان علاقاتهما الإقليمية والمحلية من أجل إجبار الحوثيين على وقف القتال في مقابل الحصول على المطالب التي تضمنها إتفاق الدوحة بطبعته الأولى.
وتزداد مخاوف المراقبين من إمكانية دخول جماعات دينية ساحة المواجهة في ظل اتساع نطاقها خاصة إذا ما شعر الحكم أن المحيط الإقليمي والوضع الدولي قد تركه وحيداً في الساحة يواجه خصماً تبين من مراحل الحرب المختلفة أنه معد إعداداً جيداً تمكن من الصمود لنحو أربعة أعوام وما زال قادراً على إحداث المفاجآت إلى جانب وضع إقتصادي متهالك وأزمة سياسية عاصفة.
وإذا ما رجح لهذا التصور أن يتحقق؛ فإن وضعاً مشابهاً للحالة السودانية قد يتولد في اليمن, ستستخدم فيه كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
***
أثناء الحرب حدد موقع اختبائك بدقة!
منى صفوان
الأسبوع الفائت كانت المدافع تضرب على بعد 14 كيلومترا من زجاج نافذة شقتنا المهتز بقوة جراء أصواتها. ولم يكن شريط "الجزيرة" الإخباري يقول شيئا حول الأمر. إذا لا يوجد شيء يا جماعة... اهدؤوا!
في العام 1994 كان حسن زيتوني يأخذ توبيخا ساخنا في مؤتمر صحفي من الرئيس الذي لم يكن راضيا عن تغطية mbc للحرب الداخلية، فقد اعتبرها غير صادقة، ومتحيزة.
منذ ذلك اليوم تغيرت أشياء كثيرة: تخصصت قنوات إخبارية لنقل أخبار الحروب حتى لا تكون مجرد تقرير في نشرة، وافتتحت مكاتب، واستخدم مراسلون محليون لهذا الشأن، واختفى حسن زيتوني. والأهم من ذلك أن الرئيس لم يعد غاضبا من طريقة تغطية القنوات الإخبارية.
لقد غلبت القنوات الإخبارية العملاقة سلامه مراسليها، ورضخت شعاراتها العملاقة لمبدأ السلامة المهنية، الذي يمكن أن تقرأ بين حروفه شيئا عن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
المراسل المحلي من جهته لا يريد التعرض لموقف "زيتوني" المراسل الضيف، خاصة أنه لن يضمن معاملته كالضيوف، لذا يجدر الاهتمام بسلامة المراسل.
لهذا كانت أخبار صعدة تتلى من استوديوهات القنوات الإخبارية، متفننة في صياغة أخبار رسمية، لتكون في الوقت ذاته كل الصحف اليمنية تورد الأخبار ذاتها التي سيلتقطها كل الصحفيون، ليتميزوا في طريقة عرضهم لها, وتطعيمها بتصريحات من مصادر مقربة منهم.
ولكن هنا لن يتحدث أحد عن الحرب من داخل الحرب نفسها، لن تلتقط الصور، وتورد قصص الحرب المشوقة، ولن توثق الصحافة بطريقتها للأحداث التي خلقت من أجلها. ومن يلوم الصحافة إن هي استسلمت لقدرها؟!
ماذا عن قدر الديمقراطية؟ "لا يمكن للديمقراطية أن تعمل بينما يعيش الصحفيون في خوف. لكن العديد من السياسيين والمسؤولين الحكوميين يعتقدون أن الصحفي الخائف سيكون مطيعاً". هذا هو رأي الاتحاد الدولي للصحفيين، الذي يعنى أيضا بالسلامة المهنية. ففي 1998 شكل هيئة دفاع للترويج للسلامة المهنية، مع بعض المؤسسات الإعلامية العالمية.
وليس معنى السلامة إخفاء معلومات؛ "ليس هناك أسرار عسكرية تخفى عن الصحفي، فمن حق الصحفي الحصول على أية معلومات". وبحماس يكمل محامي نقابة الصحفيين اليمنيين، الذي يكرر دوما: "ما قيمة أن يحصل الصحفي على المعلومات المتاحة التي يستطيع أي شخص الوصول لها!؟ إن القيمة الحقيقية للصحافة تكمن في الوصول للمعلومات التي تحجب عن الناس". ولا يعني قول مستشار الصحفيين ذلك، أن هذا الكلام قد يقونن. فقط يفضل الاحتفاظ به عند مستوى الإعجاب.
ولأن العالم مليء بالمصادفات فإن عشية سيطرة القوات الحكومية على بقعة حكومية بأخبار باهتة حول حدث مثير، كانت قناة أفلام تعرض فيلما أمريكيا عن الثورة في نيكاراجوا 1979، ودور الصحافة الأمريكية خصوصا والصورة ليست فقط في التوثيق للحرب، بل أيضا في إنهائها.
لقد عرف الكثير من الصحفيين العرب والأجانب كمراسلي حروب، حتى أن الواحد منهم كان ظهوره على شاشة الأخبار يبادر الشك بأن كارثة ما على وشك القدوم، إن لم تكن قد حلت بالفعل. هؤلاء المراسلون قل ظهورهم في اليمن، رغم أن اليمن بلد صراع.
وسط هذا الصراع وجد عدد من الصحفيين اليمنيين فرصة استثنائية للاقتراب من الصومال، بلد الحروب الأهلية والصراعات المتأججة، ليضيفوا لسيرتهم الصحفية أنهم ماهرون في تغطية أخبار الحروب في بلدان متفجرة الصراع، وهم القادمون من بلد يعاني التهابا مزمنا بالصراع.
فالزملاء لم يستطع أحد منهم الاقتراب لتغطية الحروب الدائرة على بعد أمتار من مقطنة، وتوفرت لهم فرصة يتيمة منتصف العام الفائت لزيارة مواقع أخمدت تماما في صعدة، وتم ذلك بحراسة قوات حكومية. لتأكيد صحة الخبر الرسمي للصحفيين.
خلال الاثني عشر عاماً الماضية، قتل أكثر من 1100 صحفي وعامل في مجال الإعلام أثناء قيامهم بواجبهم. كيف يمكن تجاهل رقم كهذا، خاصة وإن كان سهل الحفظ!؟ وكيف يمكن نسيان أن الرصاص متى بدأ بالانطلاق صار الصحفيون هدفا، حتى وإن لم يقوموا بتغطية أخبار الحرب!؟ فقط هذا يحدث هنا، في حرب أغرقت حملة الأقلام في تهم مست حرية الآراء، ليتفرغ الصحفيون لحضور جلسات المحاكم.
لماذا يحاصر الصحفي؟ ربما لأنه سيكون شاهدا على انتهاكات لحقوق الإنسان، وربما أن ما يكتبه لا يعجب أحدا ما. ولماذا يقتل؟ لأنه ببساطة قد يتواجد في المكان الخطأ والتوقيت الخاطئ، ولم يلتزم ببنود السلامة، وهي غير تلك التي حددها الاتحاد الدولي للصحفيين. وفي غالب الأحيان سيفلت من قتلوه من بند العقاب.
لكن مرور حرب دون توثيق ستبقى هي الكارثة الأشد على الصحافة، حرب دون معلومات، حرب بالكثير من الشائعات، وأخبار الطرف الواحد. حرب دون قصص الحرب، ودون صور للجنود، للمقاتلين، للمقتولين، للدماء، للجرحى، للمدنين المدمرين، للأطفال المزجوج بهم.
لأن كل هذا سيذهب وستبقى الصورة، بعد تاريخ طويل بعد ذهاب الحوثيين، ومن عايشوا تلك الحرب، والنظام وقواته الحكومية (مع أني لست متأكدة تماما بخصوص الأخيرة).
قتلوا لأن أحد ما لم يعجبه ما كتبوا أو قالوا، أو لأنهم كانوا يحققون حول أشخاص رفضوا أن يتم التحقق حولهم، أو لأن أحد ما لم يعجبه الصحفيين أو حتى بكل بساطة لأنهم كانوا في المكان الخاطئ وفي توقيت خاطئ. بعض القوانين تجعل من الصحفيين يبدون كمجندين للسلطة، حتى أولئك ممن يشاركون في اضطرابات أو عصيان مدني ينظرون للصحفيين المتابعين لهم كمراقبين من طرف السلطات أو ضباط شرطة.
monasafwanMail
جغرافيا الحرب الخامسة
2008-06-05