الجامعة.. الهوية الغائبة - عيدروس اليهري*
في دراسة مهمة عن العقل والدماغ أورد الكاتب الأمريكي بروس هنريش هذه الحكاية المعبرة، التي قارن فيها بين العقل والدماغ وبين المؤسسة الجامعية ونشاطها، إذ أشار إلى أن الفيلسوف الإنجليزي المعروف جلبيرت رايل أفاد بأن أحد زائري جامعة أكسفورد العريقة أراد أن يرى الجامعة التي طالما أثارت اهتمامه بشهرتها العالية، حيث أخذ يتجول بين كل منشآتها: كلياتها وأقسامها ومكتباتها ومختبراتها وقاعات محاضراتها ومساحاتها. وكان يشاهد، في أثناء ذلك البحث، العلماء والأساتذة والطلبة والطالبات. إلا أنه بعد أن رأى كل ذلك أخبره بما أصابه من خيبة أمل "وأنه حزين لأنه كان يرغب في رؤية الجامعة، إذ أنه لم يرَ إلا المنشآت والطلبة والأساتذة وتفاعلاتهم"، وهو بذلك مثله مثل الذي راح يبحث عن العقل في نشاط تلك الشبكة الهائلة والمعقدة من بلايين الخلايا العصبية في الدماغ البشري. وكما أنه يصعب رؤية العقل في أي مكان من الدماغ، إذ أنه حصيلة ونتاج للعمليات الحاسوبية المعقدة بين خلايا المخ وعبرها، فكذلك هي الجامعة، يستحيل رؤيتها خارج نشاط وتفاعلات هيئة التدريس وهيئة التدريس المساعدة والطلبة والطالبات؛ فهي حصيلة ونتاج عمليات متشابكة من العناصر والأنساق والعلاقات والتفاعلات المؤسسية والفنية المالية والإدارية العلمية والأكاديمية التعليمية والاجتماعية الثقافية والأخلاقية، المادية والرمزية، التي تحدث يومياً بلا انقطاع في رحاب المؤسسة التي نطلق عليها مجازاً اسم "الجامعة".
توضح هذه المقارنة الطريفة بين العقل والجامعة بعض الدلالات العميقة التي لا نزال نجهل فحواها البعيدة في بلاد اليمن (السعيدة بجهلها) في تعاملنا وتصوراتنا عن الجامعة. فلا يزال كثير من السياسيين والمثقفين والأكاديميين والأساتذة والطلبة عندنا يعتقدون أن الجامعة هي تلك المنشأة المحاطة بالأسوار والمحمية بالحراسات العسكرية في ساحل "خور مكسر" في عدن أو في منطقة "مذبح" في صنعاء، أو تلك المساحة الواسعة المسورة بمحاذاة الطريق العام في ذمار.
لا يزال معظم الناس هنا يعتقدون أن الجامعة هي منشأة حكومية وجهاز رسمي تابع للسلطة السياسية، وأن العاملين فيها ليسوا أكثر من موظفين حكوميين يؤدون وظائفهم في تعليم الطلبة لقاء أجور ومستحقات مالية شهرية، مثلهم كمثل معلمي التلاميذ في المدارس الأساسية والثانوية، بل إن العلاقة بين الإدارة والمدرسين والطلبة في المدارس هي أفضل انسجاما وديناميكية وفعالية من الحال في "الجامعات" اليمنية الحكومية. ففي جامعاتنا الفاسدة ما زالت النظرة والهيمنة التقليدية البطريركية ما قبل الحديثة هي التي تقبض على زمام الأمور بما يخدم مصالح وأهداف قلة من المتنفذين العسكريين وبعض مشايخ القبائل والعشائر المتخلفة.
وهذا التكريس المتخلف للعلاقات الرعوية هو سبب خراب وفساد المؤسسة الأكاديمية، حيث جرى تقسيم الجامعة إلى ثلاث دوائر مغلقة، هي: إدارة الجامعة الممثلة برئيسها ونوابه وعمداء الكليات ونوابهم ورؤساء الأقسام وهيئة الموظفين، وجميع هؤلاء القابضين على جميع السلطات والقرارات والمقدرات المالية والإدارية والسياسية والعلمية والبحثية، يتم تعيينهم سياسياً ويستمدون سلطتهم من الحزب الحاكم، بل من السلطان المستبد.
والدائرة الثانية، هي شريحة هيئة التدريس وهيئة التدريس المساعدة، التي يتم معاملة أعضائها كجماعة من الموظفين الذين لا حول لهم ولا قوة، وليس لديهم من سلطة اتخاذ القرار والنفوذ في سير عمل مؤسستهم، وليس بمقدور نقابتهم الدفاع والتعبير حتى عن أبسط الحقوق.
وتأتي شريحة الطلبة والطالبات في قاعدة الهرم حيث يجري التعامل معهم كفئة هامشية، ليس لها من أهمية واعتبار إلا بقدر ما تبديه من حماسة ونشاط في تقديس صورة الحاكم والهتاف والتصفيق باسمه وله ومن أجله.
هكذا هي جامعاتنا اليمنية تتخذ هيئة الهرم المقلوب، الذي يقف على رأسه عوضاً عن قدميه، فبدلاً من أن تكون السلطة والقدرة والنفوذ، كما هو الحال في كل جامعات العالم المحترمة، نابعة من جموع الطلبة والطالبات، الذين يجب أن يكونوا محور وهدف وغاية المؤسسة الأكاديمية، تم تهميشهم وإخضاعهم لسلطات خارجية تأتي من خارج أسوار الجامعة.
وبدلاً من أن يكون الأساتذة والأقسام العلمية الدينامو المحرك والنشيط والفعال والعقل المركزي في هذا الجهاز الضخم وأصحاب السلطة الفعلية في الجامعة، جرى سلبهم كل مقومات وجودهم وفعاليتهم، بتحويلهم إلى جماعة من الموظفين الذين لا شأن لهم بمؤسساتهم وعملها، غير تنفيذ الأوامر والتعليمات الصادرة لهم من مكان آخر ليس لديهم أي سلطة أو رقابة أو نفوذ على مشيئته القاهرة، إذ أن حرمان الأساتذة من انتخاب رؤساء جامعاتهم ونوابهم وعمداء كلياتهم ورؤساء أقسامهم قد جعلهم أشبه بالغرباء عن ذواتهم، وذات مؤسستهم، وعمّق عندهم الشعور بالاغتراب وعدم الانتماء والخوف والقلق والنفاق والانتهازية وعدم الإخلاص للحقيقة والقيم الأكاديمية.
وهكذا تقلصت الجامعة وماهيتها وسلطتها، حتى غدت غنيمة وثروة ومصلحة وامتيازا وسلطة ونفوذا بيد شخص واحد، هو رئيسها، أو بعض الأشخاص من عبيد السلطان من حملة المباخر وماسحي الأحذية وشذاذ الآفاق، من الباحثين عن الأرزاق والمصالح الشخصية الضيقة على حساب كل القيم والأخلاق المفترضة في العمل الأكاديمي.
وكم هو الفرق بين موقفنا وموقف أساتذة الجامعات الحقيقية في العالم المعاصر! ويحضر في الذاكرة هنا موقف أساتذة أحد الجامعات الأمريكية، الذي أورده المفكر العربي أبو بكر السقاف في إحدى مقالاته، إذ أشار إلى أن رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية قام بزيارة إحدى الجامعات الأمريكية واجتمع إلى هيئتها التدريسية، وفي سياق خطابه لهم قال: "أيها الموظفون... الخ". فأوقفه أحد الأساتذة، قائلاً: "عفواً سيدي! لسنا موظفين في الجامعة، بل نحن الجامعة".
خلاصة القول: متى يعلم أعضاء هيئة التدريس والهيئة المساعدة في جامعاتنا أنهم ليسوا موظفين بل هم الجامعة؟ ومتى يعلم طلاب وطالبات جامعاتنا أن طلاب الجامعة الفرنسية في 1968 استطاعوا بحركة واحدة من التضامن الواعي والاحتجاج النقدي أن يزلزلوا عروش معظم الجامعات الأوروبية، بل وعروش النظم والدول السياسية، وغيّروا مجرى التاريخ المعاصر برمته.
* استاذ مشارك، جامعة عدن
الجامعة.. الهوية الغائبة
2008-05-15