صنعاء 19C امطار خفيفة

هوية " الحيد"

2008-02-07
هوية " الحيد"
أروى عثمان

أروى عثمان

هوية " الحيد" - أروى عثمان
 أصبت قبل عشر سنوات– بعيد عنكم – بحمى قاتلة، ارتفعت معها درجة حرارتي الى 755 درجة " معوية " لم تصاحبها فقط بزغللة العينيين، بل وزغللة مخية حادة، وتنافض العروق والأعصاب،حتى أن كل عضو في جسدي كان يتقارح لوحده..
كانت الرجة غليظة أكسبت جدار مخي تكلساً وصل حد التصلب البازلتي. لم ينفع معه لا الطب العربي ولا البديل ولا الكيماوي.. كانت حمى خصوصية، لي ولمن هم في مثل حالتي.
.. انها " حمى الهوّية " وخصوصاً " الهوية الوطنية ".
لا أنكر أني كنت في بداية اشتغالي بالفلكلور قبل عقدين من الزمن مقيدة بقوالب جامدة، كنت لا أفهمها، في حمأة المنافحة عن التراث وحمايته، والحفاظ عليه والدفاع عنه.. الخ من هذه التعابير ك: الذوبان، والاندثار والانقراض، والتشوه، والمسخ.. الخ. كنت أيضاً مهجوسة بالهوية، حبيسة الثنائية : نحن / وهم، وبغير ذلك من الأحكام المسبقة المؤدلجة ب: إما /أو، وكأن التراث الشعبي من أغاني النساء، والمهاجل، والرقص والحكايات.. الخ, ستتلاشى بالذوبان الذي يأتي مغلفاً أحياناً وسافراً في أغلب الأحيان بصوت وصورة أمريكا والدول الإمبريالية التي تتربص بنا، وتفتك بثقافتنا.
وكأن أمريكا وحلفاءها يستهدفون باستماتة مسخ هويتنا، وخصوصياتنا الثقافية، وعاداتنا وتقاليدنا ومعتقداتنا، ومحو الأغاني والحكايات والهدهدات، وسحق المحراث والثيران والإتيان "بتركتوراتهم" وجرافاتهم لإبادة سكون القرية. وستأتي لنا بحليب صناعي بديلاًً عن حليب الأبقار، ومبان خرسانية بدلاً من اللِبن والياجور، وستمزق ثيابنا الجميلة المنقشة والمكشكشة، ستدخل علينا ثياب إفرنجية ضيقة وعارية.
كان ينتابني الأرق من اقتحام الجينز لأجساد نساء قريتي، واحتلال الكوكاكولا بدلاً من" قهوة القشر "، ورقص مايكل جاكسون بدلاً من " الشرح "، وأتخيل كيف ستكون جدتي التي تستقبل الشمس من ركن سقف منزلها بمهجل الصباح بالإيقاع الهادي الحنون المزدان بالألفة، بمهجل أمريكي، صاخب أو من أغاني الريف الأمريكي، ولعلنا تمادينا بشكل لا إنساني أمام هواجسنا المثقلة بالإيديولوجيات من أن حتى شق الطريق، وإدخال الكهرباء بدلاً من الفانوس والنوارة, سيهدد كل أشكال التراث، وبدوره سيلتهم خصوصيات حياتنا...
 كنتُ مثلـ" لسان حال " أحزاب حكومية ويسارية ودينية, هم لسان حال الشعب، وأنا على غرارهم لسان حال هوية شعوب الكرة الأرضية والأجرام السماوية، والشعب المرجانية.
ولطالما انبريت كطلقات " الجرمل " لأتحدى أي لسان آخر يتحدث عن الهوية خارج تلك الحمى إلا وتصيبه طلقاتي، وفي أحسن الأحوال " طماشي " الجارح الذي يسكت مدافع رمضان، ومدافع الديكتاتوريات، التي لم أكن أعلم بأني لا أختلف عنها البتة.
كُنت مثل الحكومات التي تستهل منهج عملها بالبسملة الوطنية المركزة : " لسان حال " الشعب. وحين يطالبهم الشعب بالخبز، يردون عليه بالديمقراطية وشوروية الحكم. يحدثونهم عن الأمن والاستقرار، يحدثونك عن " حرب الزماميط " في أدغال المسيسبي، يصرخ المواطنون من الفساد وغلاء المعيشة، يرجمه " اللسان حال " "برجمات الغيب القومي والأممي " عن مبادرات الجن في جزر الكناري، للتحرر من الإنس في شمال كلهاري... وهكذا هو حال ثقافة لسان حال السلُط.. وبدوري هكذا كنت أهذي بحمى الهوية, ويشتد سعار هذياني عندما تنتابني بشكل مخصوص حمى" الهوية الوطنية "، فمن عطس قلت له : إنك مصاب بمرض زعزعة الهوية الوطنية، ومن عانى من الكتمة، قلت له : تنفس هوية "مُزيتة" بالصليط الجلجل الوطني ليسهل بلعها وبذا تتنفس صحة، ومن تنفس قليلاً قلت له : نم على هوية " ثربوية "( نسبة إلى الثربة) ستحلم بأنك سددت الإيجار والفواتير، ودفعت أقساط المدارس، وسافرت في رحلة صيفية إلى جبال الألب وبحر قزوين.
هويتي كانت أثقل عياراً من وصفات الحبة السوداء / حبة البركة، شفاء ودواء لكل العلل الجسدية والروحية والوطنية.
وكنت أحمل "الهوية الأم" داخل " مسبـ" كبير وعميق ومتين، يكسر ظهري كلما أضفت إليه توابل الوطنيات بأنواعها. كان مسب "حبوب مجذوبـ" محشورة داخله آلاف من الهويات على أقسام وأحجام وأشكال، نصرفها بحسب المقاسات التقليدية والحداثية أيضاً، نصرفها كلما أحسسنا أن المرء يعاني من رجرجة فكرية في نقص وتقشف في الهوية.
هكذا تخيلتُ المسألة، وعندما بدأ انشغلت بهاجس الكتابة قبل أكثر من عقد، توشأ قلمي بالماقبليات، المايجب، واللابد، وأحياناً لا بد من ضربة وضربتين على طاولات النقاش لأبرهن على حماسي " المجرمل " ( نسبة إلى بندقية الجرمل ) للدفاع عن هويتنا المسحوقة. فالمسألة حياة أو موت، يا قاتل أو مقتول. فأمريكا والعالم الغربي لا شغل لهم غيرنا، وغير قريتي المقصية عن الخارطة اليمنية، بل والمقصية عن الحياة برمتها _ فمازال الفانوس، والمياه الآسنة، وطرق الموت، والكي علاجاً يعلم حياتهم حتى اليوم -.
كنت أنهل من القراءات لأولئك الكتاب الذين يمنحونني طاقات للمزيد من تحطيم الطاولات، والزعيق الثوري المعبأ بالضديات، والحيثيات، والإستراتيجيات، وبلا قيود، وبلا حدود. ولا أخفيكم أني كنت في هذه الحمأة أقرأ الكلمة الأخيرة بـ"حيود". فضلاً عن نهمي في قراءة الكتب المرصعة بالتعاليم والوصايا والفتاوى لرموز القومية الثورية، من ماوتسي تونج وثورته الثقافية، إلى " ما العمل "، إلى كيف تصبح قومياً ثورياُ في أقل من ثلاث دقائق,خصوصاً إذا شربتهم على الريق.
وتوهمت بذلك أني كنت أقاوم الإمبريالية والعولمة والديكتاتوريات، من غير أن أدرك أني لا أختلف عن أي ديكتاتور. حتى كتب لي زيارة إلى مكتبة الإسكندرية في إحدى منح اليونسكو (2005) وتحرر عقلي من كثير المسبقات، تراجعت عن التشنج المصحوب لضرب الطاولات ( وان كنت ما أزال أمارسها بين حين وآخر ) وعن الحماسة الزاعقة، وعبر الكتاب والقراءة حاولت أضيق المسافة بين : "إما " و " أو "، ونحن وهم.
عرفت أن صراع الهويات والهوية الدائرية المغلقة تحت أي مسمى: إسلامياً، قومياً، يمنياً، ماركسياً، أو غير ذلك! ماهي إلا مصنع لكل القتلة والمجرمين، والمستبدين، وإن الهوية لا تزهر إلا في الشرفات المفتوحة على الشرفات الأخرى المختلفة، وهو التعدد والتنوع وليس للتجانس الساكن. وأن الثقافات هي المحور الذي يجب أن يشتغل عليها البشر، للتعايش، وان المواطنة هي السبيل للتعايش، وإنا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بفصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن الدولة مليون مليون مرة، لنختلف ونختلف، ونختلف، لنعيش؛ وننتج، ونبدع، ونأتلف.
ولاكيف تشوفووووووا؟
arwaothmanMail

إقرأ أيضاً