ختان الإناث.. أحد تجلّيات غياب القيم الديمقراطية - مروان الغفوري
يتعارف السودانيون على تسمية عاصمتهم بالعاصمة المثلّثة. وهم يقصدون اندغامها مع أم درمان و"خرطوم بحري" في أقنوم واحد هو خرطومهم الحميم، العاصمة الشاسعة المنفتحة على النيلين والحرب، دائماً. زرتها للمرّة الأولى سفيراً للنوايا الطيبة لمنتدى الشقائق، صنعاء، تجاه حقوق الإنسان في أفريقيا، بالتحديد: حقوق المرأة الأفريقية، وبتحديد أكثر جاذبية فيما يتعلق بقضايا ختان الإناث بالمقام الأول.
في ورشة نقاش استمرت ثلاثة أيّام احتضنها فندق "الفردوس"، في السوق العربية القديمة في الخرطوم، وتبنّتها منظمة "لا سلام بلا عدالة" الدولية، وجميعة "الانتشار" الخيرية السودانية؛ في تلك الأثناء مددت يدي إلى العمق الأفريقي، إلى الجوّاني جدّاً من هذه القارة، إلى الأسمر الخاص المرتبط بتفكير إنسان ما قبل الإنسانية تماماً. تفاجأت، هناك، بسيادة أشكال من الختان لم تخطر على بالي حتى كطبيب. فبحسب تعريف منظمة الصحة العالمية WHO للختان وتقسيمه إلى درجات وجدتُ نفسي أمام تنويعات متوحشة من الممارسة. فهناك ختان السنّة، حتى بتعريف منظمة الصحة العالمية Sunnah circumcision وفيه يتم بتر جزء من -أو كل- البظر، فقط. أما الدرجة الثانية فمعها تجري عملية قطع للبظر والشفرين الصغيرين والكبيرين. ويشتد الأمر سوءاً في الداخل الأفريقي، ومنه السودان، مع الدرجة الثالثة حيث تجرى عملية خياطة للمنطقة التناسلية كلها من الخارج باستثناء ترك فتحة صغيرة بقطر ميليمترات لخروج دم الحيض والبول. وقد يصل عدد الغُرز التي يستخدمها ممارسو هذه الدرجة إلى ثماني غرز لضمان إغلاق المنطقة كلها وحظر التجوال فيها! أما الدرجة الرابعة فقبل عملية الخياط هذه تباشر الدايات، القابلات، بوضع زيوت أو مواد حارقة أو حتى قطع من الزجاج في منطقة المهبل لحرقها وتضييقها قبل إغلاق المنطقة، في عملية إجرامية شبيهة بتفخيخ عربات النقل العام. وفي كثير من المجتمعات تحضر هذه الدرجات بنسب متفاوتة، فالأولى تسود في مصر، بينما الثالثة في كينينا والسودان، في حين تنتشر الدرجة الرابعة في أفريقيا جنوب الصحراء.
وقف مراسل إذاعة ولاية الخرطوم أمامي في بث مباشر ليسألني: كيف يمكن أن تفيد السودان من تجربة اليمن في مناهضة هذه الكارثة (يقصد ختان الإناث)؟ فأبدى اندهاشه الجم حين قلتُ له، وللجمهور السوداني، إن هذه الممارسة/ الفعل الذي يحتاز النصيب الأوفر من الحضور الأفريقي (6000 طفلة تجرى لها عملية ختان يوميّاً، بمعدل يصل إلى مليوني طفلة سنويّاً) ويمتد لأكثر من 5000 سنة في التاريخ، إلى عهد الفراعنة، لا يحظى بأي حضور حقيقي عند أي مستوى من مستويات التشكيل الاجتماعي، أو حتى الثقافي، اليمني، بالتحديد: اليمن الجوّاني المتّجه ناحية الشمال. وحتى تلك النسب اليائسة التي تصل إلى 22% عندما تتحدث عن ممارسة ختان الإناث FGM في اليمن فهي تعودُ لتحصر الفعل في الشريط الجغرافي الممتد بمحاذاة البحر، بمعنى: ذلك الذي يقابل القرن الأفريقي ويتصدّى له. وهو توكيد جغرافي لحقيقة تاريخية تتقصّى دخول الممارسة إلى اليمن، فتحاصرها تاريخيّاً في بدايات القرن العشرين وليس أبعد. يحدث هذا رغم أن مجتمعنا اليمني يمكن اعتباره بغير كثير حذر في عداد المجتمعات المحافظة دينيّاً وأخلاقيّاً.
هذه الملاحظة ستدفع باتّجاه مساءلة الأفكار التي تحيل، كليّة، ممارسة ختان الإناث إلى العامل الديني لدى المجتمعات، المسلمة بالتحديد. مرّة أخرى، يأتي الدين لينتظم ضمن التفسيرات الارتجاعية التي يعتمد عليها المجتمع لتبرير ممارسة بعينها، ختان الإناث هُنا، قائمة بشروطها وفلسفتها السابقة على التفسير الديني. فالمجتمعات الأفريقية جنوب الصحراء تمارس فعل الختان بوعي خرافي ليس له علاقة بالدين، أي دين، البتّة، ويمتد في التاريخ والذاكرة عميقاً بصورة يصعب معها إحداث عملية فض اشتباك بينه وبين المجتمعات. فبالنسبة لبعض هذه المجتمعات فإن عملية ختان الإناث هي عملية تطهير للمرأة التي ينظر إليها باعتبارها نجاسة محضة حتى تتخلص من أجزائها الزائدة. وأن الفتاة لن يمكنها أن تلد أو حتى أن تصبح بالغة ما لم تتخلص من أجزاء الرجل التي تظهر عليها بعد الولادة.
مجتمعات أخرى تعتقد أن المرأة غير المختتنة قد يتحوّل لبن ثدييها إلى سم قاتل فيما إذا خرج الجنين ولمس برأسه بظرَ أمّه! آخرون يعتقدون أن أي تماس بين العضو الذكري والبظر قد يتسبب في موت مفاجئ للزوج. كل هذه المجتمعات، أو معظمها، تعتقد أن شرفها الشخصي يأتي من حفاظ الفتيات على بكارتهن قبل الزواج. ثمّة طيف واسع جدّاً من التعليلات العقديّة لدى المجتمعات التي تمارس هذه العادة، وباختلاف هذه المجتمعات وأصولها السلالية والثقافية فإن معنى واحدا تتقاطع عنده كل هذه الخيوط: الطهارة، الحماية.
أبعد في وعي هذه المجتمعات، ستتجلى عملية الختان كظاهرة من ظواهر غياب التسامح، بوصفه سمة ديمقراطية، بالإضافة إلى غياب كل أشكال الممارسة الديمقراطية في هذه المجتمعات، وما يؤول إليه ذلك، بالضرورة، من سيادة البدائل العنيفة وتفشي المزاج الدكتاتوري عند كل مستوى وبنية اجتماعية.
وللبحث عن أمانها الفردي، تمارس الأسر عملية ختان الإناث كعملية حمائية ووقائية ضد توحّشٍ ما متخفّ في المجتمع، غير واضح المعالم لكنه سمة واضحة في تجلياتها وواقعياتها وغير مجرّم عرفيّاً.
سيكون من الصعب القضاء على ممارسة ربما كانت أطول عمراً في التاريخ من المجتمعات نفسها، باستخدام التشريعات والقوانين فقط. فهذه المجتمعات تعتقد بأكثر من معنى أن ممارسة فعل ختان الإناث هو واحدة من أهم خصائصها القيميّة وعلامة فارقة من علامات وعيها بذاتها وبدورها الأخلاقي والتزامها النفسي. وعليه فقد تصالحت مع هذا الفعل حين ورثته من السابق لها وأقامت معه علاقة متصالحة ومتفهّمة، وتطوّرت العلاقة حتى أصبحت اشتباكاً قيمياً، ثم مقدّساً في الأخير. وهو ما يعني أن ختان الإناث لدى كثير من المجتمعات، حتى تلك التي تبرر الختان دينيّاً، أصبح في منزلة سابقة على الدين، وربما يجري النظر إلى الدين من منظور ختان الإناث وليس العكس. عند هذه الدرجة الحادة من تعالق الوعي المجتمعي بالظاهرة/ الممارسة سيكون من السخرية بمكان الحديث عن الحد من الفعل باستخدام النص القانوني وسلطة القهر الشرعية. فالذي سيحدث هنا أن التشريعات ستؤسس لمحاكم تفتيش جديدة بينما سيفرّخ المجتمع، ربما لأول مراته، دور البطل الشائع، وهو ذلك البطل الذي ختن ابنته دون علم السلطات، أو تستر على ختان ابنة جاره دون أن يعلم أحد بذلك، أو استطاع أن يعبر الحدود إلى دولة مجاورة لا تجرم فعل الختان فختن ابنته ثم عاد بها سالمة إلى أرض الوطن. تماما كما يفعل أبناء الجالية الصومالية في دول مثل هولندا حيث يجرّم القانون مثل هذه الممارسات. خلاصة ما يمكن أن يُقال من الكلام الكثير حول الإحاطة بهذا الفعل وممارسته أن يتحوّل وعي المجتمع به باعتباره جريمة ضد الإنسانيّة لا علاقة لها بالتطهير ولا بالدين ولا بالحشمة. وليس من قبيل السخرية أن نعرف أن معظم البغايا، في مجتمعات ختان الإناث، مختتنات. وإذا كانت التشريعات الموجهة ضد هذه الممارسة تنزل رأسياً، أو هكذا يُراد لها الآن في أفريقيا وفقاً لتوصيات بروتوكول موبوتو لحقوق المرأة الأفريقية - أكتوبر 2005، فإن التمهيد الأفقي يمثّل الكفيل الأهم لنجاح هذه التشريعات. وأعني بالتمهيد، التمشيط، الأفقي، خلق قابلية اجتماعية لإنزال التشريعات. فدائماً ما تكون التشريعات الناجحة هي استجابة حادّة لحاجة اجتماعية ضروريّة. وطبيعي أن يكون هناك اتفاق عام، استشعار سابق، من قبل المجتمع بكل طبقاته لكي تبدو التشريعات لائقة وحميدة، ولكي لا يتواطأ على مناهضتها واختراقها. وهذا يأتي عبر فهم الأصول الثقافية المؤسسة لفعل الختان بالتزامن مع الحديث عن الأضرار الطبية والنفسية للممارسة، وطرح أمثلة حيّة على الجمهور، بعد عملية مصالحة واستيعاب لمخاوفه الخاصة والعامّة. وملائم هُنا أن نشير إلى أن استعمال لفظة circumcision لتدل على الفعل، بمعنى الختان، أكثر مواءمة من الناحية النفسية من لفظة mutilation والتي تعني البتر والقطع والهتك. فليس أعنف، على جمهور متصالح مع فعل ما نفسيا وذهنيّا، من مواجهته بالتسفيه والإهانة وتبييت العزم العلني بإزالة هذا الفعل ولو كلف الأمر استجلاب تشريعات غاية في الصرامة. فإذا كان فعل ختان الإناث في واحد من تجليّاته هو انعكاس لغياب قيم الديمقراطية والتسامح والأمن في المجتمعات فإن معالجته لا بد أن تأتي ضمن وسائل راشدة تبطن في تكويناتها كل هذه القيم وتعززها.
الخرطوم
thoyazanMail
ختان الإناث.. أحد تجلّيات غياب القيم الديمقراطية
2008-01-10