المتقاعدون ليسوا جنودا في معسكرات من يتحدث باسمهم، والحديث عن صراع الشمال والجنوب تجريب لمجرب مهترئ.. من إفساد قرار العفو إلى سوء تقدير واجبات النصر الانتخابي.. هكذا أنجز «المؤتمر» مهمته ضد دولته - نبيل الصوفي
ذات ردود أفعال اعتبرتها "غير مبررة" موضوعيا على مقال لي، قال لي الأخ والزميل مجيب الحميدي، إن علينا أن نتحمل "ثمن أي سوء فهم لمحاولاتنا التحليل باعتماد زوايا رؤى وأدوات تحليل متعددة". السبب، من وجهة نظره، أن هذه الطريقة تتناقض والتجربة الاجتماعية التي "تميل إلى تبسيط المشكلات، والاكتفاء برؤية سبب أو عامل واحد".
لست واثقا من أني فعلا أفعل ذلك. غير أن مثل هذا النقاش لفت انتباهي لما لم أكن أدركه، حتى لو كنت فعلا أقترب في بعض تحليلاتي من منهجه.
في الجدل الذي طغى على السطح الأيام الأخيرة، بشأن حقوق المتقاعدين، وما استتبعه من تفاعلات كادت تتحول إلى صراع، فضلت الانتظار قليلا، أو فرضت عليَّ الظروف ذلك، حتى يتاح لي رؤية مختلفة، أو بالأصح رؤية أشمل مما قدمتها أطراف الصراع. الأمر ليس سعيا وراء زيف ادعاء التميز، ولكنه محاولة لجم اندفاع كان في مراحله الأولى "إدانة مطلقة للسلطة"، ثم تحول للشعور الشخصي بالحنق من عجز حركاتنا الوطنية عن حماية منجزاتها. أقصد بذلك الانحراف الحقيقي -حسب ما أنا مقتنع به- بقضية التقاعد والحقوق، ومحاولة استغلالها أو بالأصح تسليمها للخبرة الصراعية التي استغلت المناطق في صراع عقيم على مدى نصف قرن أو أقل قليلا. وهو ما هدد أن يفضي إلى نقيض الأهداف العامة.
ليست مجرد حقوق.. وليست مجرد مؤامرة
من وجهة نظري فإن ما شهدته بعض المحافظات الجنوبية، أخص بالأمر محافظة "الضالع"، بامتدادات صغيرة ولكنها حادة ومعبرة من محافظات أخرى كعدن وشبوة وأبين (بالترتيب من حيث المشاركة). لم يكن مجرد "مؤامرة على الوحدة"، لكنه أيضا لم يكن مجرد "حركة حقوقية". بل له من كل ذلك نصيب، مضافا له الكثير من التوصيفات الأخرى، أقلها اختلال تسويات النفوذ، الصراع على السلطة، الاحتجاج على سوء توزيع الثروة، يأسا من الانتخابات، احتقانا تسببه لا مؤسسية دولة الوحدة، ثم مركزية هذه اللا مؤسسية!! العجز الحزبي، استمرار الخطاب الانتخابي... وغيرها من العوامل التي لا تنتهي بـ"أيادي خارجية" لها أجندة لا حصر لها. وقبل ذلك كله الاختلاف في التركيبة الاجتماعية من محافظة لأخرى، وعقابيل صراع ما قبل الوحدة في دولة الشطر الجنوبي، [لا عليكم يا رفاق فنحن هنا لا ندين الماضي وإنما نستخدمه إحدى أدوات التحليل. كما يمكن استخدام بذور الصراعات الدموية في صعده والقبلية بين موفنبيك (الأحمر) والجراف (الشائف) فيما يخص صراعات الشمال]. المعنى أن جيل تلك الصراعات هو من لا يزال يحكمنا على كراسي الحكم أو في دهاليز المعارضة.
وباعتقادي أن أي محاولة تقفز على رؤية "مبررات حقيقية ومحترمة" لدى الطرف الآخر، تستحق وصفها بـ"المخادعة"، أو التي "تحاول توظيف القضية الحقيقية للحصول على مكاسب أخرى لا قيمة لها"، سواء كانت من المعارضة كمحاولات لإعادة ترتيب التسويات، أم من السلطة في سبيل خنق النسخة الجماهيرية للتطور السياسي كأهم ثمار الانفتاح الديمقراطي الراهن.
مقترحي، أن على السلطة وهي تبلي حسنا حتى الآن في الاستجابة لمواطنيها، مع أخطاء قاتلة كما حدث في عدن مطلع الشهر، عليها التخفيف من اللهجة الاتهامية، إن لم نقل شكر المتقاعدين على تصديهم لمحاولات قوى ما قبل ال20 من سبتمبر وأد نجاح ذلك اليوم، ومساعدتهم دولة الرئيس "صالح" بوصفه فائزا عبر تلك الانتخابات، للبقاء قريبة من المشكلات وإحداث مراجعة حقيقية تفصيلية، أو لنقُلْ: مواصلة الأداء الانتخابي الذي سيتكفل فعلا بإنجاز تحولات في بنيوية الدولة ومؤسساتها، ومن ثم في أدوراها وأداءاتها، وهو ما سيفيد اليمن سلطة ومعارضة، شعبا وحكومة.
وعلى المعارضة أيضا إن لم نقل نقد الأخطاء التي ترافقت أو تقدمت أو خططت لما حدث، لتجنب تحول المشكلة إلى داخلها بسبب هشاشتها التنظيمية، فليكن الاعتراف أن ذلك حدث، لأن ذلك سينعكس -تلقائيا- على خطابها الذي يبدو مجمعا على إنكار سوء حقيقي حدث، ومغالطات لا تزال ترافق الخطاب المرافق لحملة الحقوق.
التناقضات.. محاولة فصل وتحليل
الاستماع الهادئ للمتضررين (وقد شارك الكاتب في جلسات نقاش عاصفة في الضالع وعدن مؤخرا عن ذلك) تكشف حقيقة لا مسؤولية بل و"قذارة" التواطؤ الذي تقاسم به المسؤولون المصالح، سواء كانت استحواذا على أرض أم الاستيلاء على مرتب، فضلا عن الاكتفاء بمغانم الوظيفة العامة وعدم تحمل مسؤوليتها. وإذا كان ذلك سيئا وأثمر إعاقات في كل اليمن، فإن تأثيره في الجنوب تجاوز ذلك، حيث أنه أولا مورس تحت غطاء النصر الذي حققته دولة ما بعد الوحدة، بمعنى أنه مورس أصلا على مراكز قوى اضطرت للقبول به تحت ضغط هزيمتها السياسية في تلك الحرب، وهو ما لا يحدث في الشمال حيث تتم التسويات سريعا بسبب التوازنات ولعدم وجود نصر وهزيمة سياسيتين. وثانيا فإنه مورس أصلا في فضاء لم يكن مستعدا له، حيث أن دولة ما قبل الوحدة في الشطر الجنوبي، ومهما قيل من سلبيات لها، فإن قادتها لم يستخدموا نفوذهم السياسي من أجل مصالح تتجاوز "القدرة على التأثير في القرار السياسي"، مما وفر -إضافة للتطور الاجتماعي الذي أحدثه التعليم ووفرة المصالح في عدن وحضرموت خاصة- فضاءا "هرسته" شرعية ما بعد 94 للأسف للشديد. كل ذلك جعل تأثيره قاسيا ولا إنسانيا على مواطني تلك المحافظات، وهو بسوئه على عدن تجاوز تأثيره عليها إلى تعطيلها كأهم مرتكز لأي تحسين اقتصادي لكل محافظات اليمن.
غير أن ذلك لا يحتمل الخطاب الذي يتحدث عن "نهب الجنوبـ"، وهو السياق الذي يضاعف من وجوب نقده انضمام مسؤولي حزب الإصلاح في عدن وحضرموت لمحازبيه.
لقد حمت العصبيات التي استعادت عافيتها في شبوة وأبين -مثلا- أرضها ونفوذها، وكان للتعامل "المحترم" الذي نشأ بين سلطة حضرموت ومواطنيها دور في مشابهة ذلك هناك. أما الضالع فليس فيها أصلا موارد تم الاستيلاء عليها. أتحدث عن الموارد الطبيعية (مؤسسات أو أراضٍ). ولذا فالحديث عن نهب الجنوب لا يحقق شيئا للمشكلة الأم، وهي العبث بعدن، ويبدو في حقيقته مجرد سعي للتبادل غير السلمي للعبث بهذه المحافظة التي هي على حد تعبير الأستاذ عبد الباري طاهر "أمَّاً معقوقة"، لرفضها العصبيات منذ عشرات السنين.
ويبقى الموضوع الوظيفي؛ إذ لا يمكن إنكار التجييش من خارج المحافظات، ليس في السوق، ولكن في الوظائف. ومع أني لم أتمكن من الحصول على تصنيف مناطقي لشاغلي الوظائف المفترض ارتباطها بالتكنوقراط والبيروقراطية، من مدير عام وحتى نائب وزير، إلا أن حضوري النقاشات أبان لي حقيقة مرة وهي أن غالب المشتكين من الإقصاء، هم من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية. فيما غالب أصحاب القرار والفصل في الشكوى (شاغلي تلك الوظائف) هم من محافظات الشمال.
غير أنه ومن موقف المتفق مع وجوب رفع الأصوات الناقدة -وبكل الأساليب- لهذا الاختلال ليس لكونه فقط مسيئا لقيم المواطنة المتساوية، الغائبة أصلا، ولكن لأنه تعبير عن سيادة المحسوبية، وتحويل الدولة إلى "عزبـ" لذوي النفوذ، ومهدد حقيقي لنموها الإداري، وتأصيل فعلي للشعور بالنقمة المناطقية، كمهدد للسلام الوطني. وهو نقيض لكل الأهداف المعلنة والطبيعية لدولة الوحدة.
من هذا الموقف، أعتقد أن على الناقدين إن هم أرادوا خطابا معالجا، وليس مجرد الصراع على السوء، أن يدركوا أن عدن، والمكلا، والضالع، تشكو أولا من الحماية المناطقية لمسؤولين لا يتحلون بالمسؤولية في إدارة شؤونها، أيا كانت مناطقهم، ويمثل هذا أولوية قصوى في نضالهم وخطاباتهم (أتحدث عن المواطنين الذين لا ينافسون على تلك المناصب، أما من ينطلقون من مصلحة شخصية، وإن كانت مشروعة بالطبع، فإنهم إنما يستغلون الانتماء المناطقي كردة فعل طبيعية لما يمكن تسميته أصلا بمحاباة ذوي النفوذ ضدا لمقتضيات القانون، وهو المبدأ الذي لا تخطئ العين تحكمه، أو لنقل أولوية تأثيره في التعيينات مهما كانت المعطيات القانونية والمهنية). ولذا فالحل ليس تعيينات مناطقية بل إصلاح قنوات التعيين، وجعل ذلك أولوية لإصلاح الخدمة المدنية قبل حتى الازدواج الوظيفي أو استراتيجية الأجور. وإلا فإن شكوى ابن الضالع من مدير قادم من "شرعبـ"، ستصبح وسيلة ابن جحاف للشكوى من ابن الشعيب، في متوالية تحقق خلافا لمراد الشكوى العامة. كما أن هذا نقيض للتطورات البشرية التي نستفيد منها كيمنيين مغتربين في كل بلد وبلاد (يمكن هنا الإشارة لدعابات تم تبادلها طويلا في الاجتماعات المشار لها حيث كان الجميع يضطر لتذكير بعضه بمنطقته الأصل لتجنيبه مأزق التشدد في الحديث ضد "الوافدين إلى عدن"، إذ غالب المتحدثين باسم تلك المحافظة هم مولودون خارجها).
هذا الحديث -لمن يتفق معي- يمكن الانتقال منه إلى "وهم التمثيل الجنوبي". ومع أن الكاتب يعتقد أن كل فرد لا يحتاج لأي مرجعية ليصبح من حقه الدفاع عن مصالحه، ويكفي تعرض مصالحه للانتهاك كمرجعية ومصدرا للشرعية، فإن هذه الشرعية تفقد "احترامها" حين يتحول بها المنتهَك إلى منتهِك (الأولى بفتح الهاء والثانية بكسره). إن من يستمع النقاشات بين أصحاب الشكاوى الواحدة، يدرك أنه لولا تحالف إصلاح مسار الوحدة وحركة "تاج"، وبعض حلفاء السلطة الذين تضرروا من إفرازات الانتخابات المحلية خاصة، أقصد من حلفاء السلطة وقيادات المؤتمر في بعض المحافظات، مع المرتكز الأهم وهي "القضايا العادلة" التي يكمن سوءها في أنها نتيجة أداءات منهجية حتى ولو لم تمس إلا عددا أقل بكثير مما يتحدث عنه. لولا ذلك لما تمكن الخطاب السياسي -المعارض كموقف وليس كأحزاب- من أن يصادر اسم "المحافظات الجنوبية". إن كثيرا من رموز مثل هذه الإدعاءات لم يحصل على ثقة تتيح له أن يكون عضوا في مجلس محلي لمديرية، فضلا عن أن يكون موئلا آمنا لمواطني مناطق بهذه السعة التي تعنيها "الجنوبـ". كما أنه لولا إدراك السلطة، وبخاصة "شخص الرئيس علي عبد الله صالح" أن ورقة كهذه يمكن أن تتيح لخصومه –خاصة خارج اليمن سواء دول أم من اليمنيين الذين إما هم ضحايا صراعهم معه وإما بقايا تحالفات معه أيضا- فرصة ولو للإيذاء الموضعي فقط، لكان سهلا على السلطة إبقاء المسألة صراعا لا ينتهي بين الفرقاء، خاصة إذا أدركنا أن عناوين كـ"مجلس تنسيق" وكـ"جمعيات للمتقاعدين"، ليس غالبها سوى أسماء على بيانات، أما من يتتبع خطابات قياداتها فسيجد وبوضوح، حدة في الخلافات، دفعت بعضهم لمطالبة البعض بـ"التنسيق وعدم الإقصاء"، أو من "ينتقد استحواذ البعض على جهود الكلـ". بل إن بعض القيادات ترفض مجرد نشر تصريحاتها بجوار آخرين من المؤسسات ذاتها في وسائل إعلام، وأتحدث هنا عن وقائع وليس عن تخيلات. لكن ليس مهما نشرها. هذا علاوة على أنه إن كنا سنتحدث عن جنوبيين مقابل شماليين فإن المأزق سيكون التعامل مع شريحة أوسع من ذات المناطق الجنوبية والشرقية، وإن شاركت المحتجين في المعاناة فإنها لا تشاركهم مطلقا منهجية العمل، ولا الرؤى العامة ولا الخاصة. بل إن بعض المتصدرين للحقوق يثيرون لديها المخاوف. وتوزيع الاتهامات على البعض من ذات المنطقة يؤكد أن التحالفات سياسية وليست مناطقية. وكم كان مثمرا لو عبر عنها بمنطق وخطاب سياسي أيضا!
أخطاء وخطايا
لا مناص للسلطة من الاعتراف بأن التعامل غير الواعي مع "جيش دولة الحزب الاشتراكي" أفسد واحدة من أهم إنجازات دولة الوحدة، وهي العفو "الرئاسي" على خصوم "الحربـ". وهو القرار المخالف للسائد الاجتماعي في الشمال والسياسي في الجنوب.
فمع منطقية عدم تمكين المحاربين من أدوات الحرب مجددا، فإن الاكتفاء بالعفو في مجتمع ضعفت عصبياته الاجتماعية كأحد مصادر إضافية للرزق وتحمل المسؤولية لدى سكان المحافظات الأخرى من صعدة وحتى شبوة (أتحدث عن عدن كمنطقة وظيفية لغالب رجالات الدولة الجنوبية، وعن الضالع التي يمكن وصفها بـ"سنحان الجنوبـ"، التي جاور فيها فقر الموارد أكبر مخزون صراعي، ثم مع غيرهما من محافظات المجتمع الجنوبي الذي أنتجت فيه سياسات الدولة الشمولية -اقتصاديا- جيلا غير متحرر من سطوة الوظيفة العامة، ولم تساعده دولة الوحدة على تجريب ذلك، إن لم تكن ضاعفت من مخاوفه، يضاف ذلك إلى ما تعانيه كل اليمن من اختلال في إدارة ثروتها والتي تظهر عبر الفروق الكبيرة بين إمكانيات ومستويات كبار الموظفين وصغارهم).
لذا فجنوبيا اكتظت المحافظات الفقيرة "أهمها عدن والضالع"، ببطالة حادة يمكن القول إنها أعادت إنتاج عوامل تجميع ذات الجيش ولكن خارج ميادين القتال، ولكن بمشاعر غاضبة من الدولة أيا كانت رايتها. وبدلا من تقدير خطورة ذلك على الدولة سياسيا واجتماعيا، فقد تلكأت الدولة طويلا قبل القيام بمعالجات فعالة، وأقصد المعالجات التي تتجنب ما حذر منه أمين عام الحزب الاشتراكي قبل ثلاثة أعوام، تقريبا، وهو الانجرار للمشاريع "الصغيرة"، باعتبار سهولة حلها أو السيطرة عليها بل واستخدامها أحيانا؛ إذ الأخيرة كلما فتتت تحالفات ونزعت النضالات من سياقها كلما عقدت شروط الحل. وأتذكر أن مسؤولا رفيعا قال ذات نقاش: "ليت أن اللقاء المشترك هو من يقود هذه التفاعلات". المقصود أنها حتى لو خرجت من مساق القضية الوطنية العامة فستظل قضية سياسية لحركات وطنية بالأساس. أما حين تصبح الأمور دون قيادة فإنها تحقق فعليا التحذير التاريخي من أسوأ أنواع الاستبداد، وهو استبداد الضعيف على القوي؛ إذَّاك ليس أكثر من مجرد مضاعفة "قوى الضعف".
المؤتمر.. ديمقراطية غير الرشيدة
ليس جديدا القول إن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدها اليمن، تعد من أهم المحطات السياسية ليس في اليمن وحسب بل وفي المحيط العربي. فقد هيأت لتحريك الملعب السياسي الذي كاد "يتكلس" بسبب قصور في مكونات العمل السياسي، وبخاصة في العلاقة بين الدولة أو الأحزاب التي تحولت إلى "صراعية" بسبب أن كل طرف منهما لا يرى إلا الآخر. فالدولة لا تقدر على رؤية طرف يمكنها تحميله مسؤولية أي "خطأ" سوى الأحزاب، والأحزاب لم تتمكن من تطوير مصادر المصلحة فبقيت "الدولة" بالنسبة لها مصدر كل مصلحة، وهي مثلها هنا مثل أي شيخ قبيلة.
وبالنظر إلى أن تميز المحطة الانتخابية الأخيرة -رئاسيا- لم يصنعه طرف واحد، حيث شاركت المعارضة والسلطة في صنع ذلك التميز، فإنها في النهاية -وأيا تكن نتائج الصندوق- قد رفعت سقف الطموحات الشعبية، وحركت المطالب الاجتماعية والاقتصادية سواء لعموم الناس أم لمراكز القوى سواء صاحبة الحقوق أم المتسلقة، الطامعة في ترتيبات مختلفة أم الخائفة من تلك الترتيبات. وهيأت اليمن بشكل حقيقي لـ"انتقالة" إجبارية، ما لم تتحقق "بشكل هادئ ومرعي رسميا، سواء كان رسميا من جهة الدولة أم من مختلف الأشكال الرسمية كالأحزاب التي عليها القبول بدفع ثمن من أفكارها ومعتقداتها وعاداتها وآلياتها لصالح التغيير الذي ستكون هي إحدى ضحاياه لصالح الجديد، فإن التحول سيفرض نفسه ولو عبر القفز في الهواء إذا لم يجد فرصة لأداء رشيد. فالمهم أنه لم يعد بإمكان أحد التحكم بها. وصارت المهمة الوحيدة الممكنة هي مسايرته من أجل إنجازات مشتركة، ومسؤوليات أيضا.
ومع أن المؤتمر الشعبي العام، وعبر الرئاسية والمحلية امتلك أول تفويض انتخابي "مشهود له"، بل إن المعارضة بموقفها الذي تلا تلك الانتخابات جعلت من ذلك النصر "ذاتيا" خالصا، ورغم بعض الخطابات الرئاسية التي حاولت تجاوز التوتر الذي نتج عن الحملة الانتخابية الرئاسية وتعزز بالنتيجة الساحقة ضد الأحزاب في الانتخابات المحلية، ليس فقط لم يفلح في تحقيق انفراج سياسي. بل إنه -أي المؤتمر- بدا غير مدرك لخطورة بقاء المعارضة مشدودة لخطابها الانتخابي، إن لم نقل ساعيا لذلك في سياق صراعات صغيرة معها أو بين مكوناته، أو تعبير عن افتقاره للحد الأدنى من متطلبات صناعة القرار.
إن الدول التي تعيش معارك كتلك التي عاشها اليمن، ورغم أنها دول مؤسسات متحررة من عوامل الصراع الاجتماعي المرهق لأي كيان سياسي، ومجتمعها غير أحادي، بمعنى أنه لا يمنح طرفا واحدا ما يمنحه الناخب اليمني للمؤتمر، تلك المجتمعات وبمجرد انتهاء الانتخابات يعمل الفائز على امتصاص "غضبـ" المهزوم، حتى لا يجد نفسه وهو المنتصر مضطرا للدفاع عن فوزه في كل يوم ومحطة جدل، مما يبقيه خارج أدوات تحقيق ما وعد به، أو لنقُلْ: غير قادر على الاستمتاع بالفوز على الأقل، فبدون "خفض سقف التوتر" تنقلب الموازين وتصبح المعارضة هي المتحكمة، مما يفرغ أي فوز انتخابي من مضمونه مطلقا. أما يمنيا وبدلا من أن يسعى المؤتمر لامتصاص "استياء المعارضة"، بوسائل ممكنة، فقد واصل استفزازها ودفعها مرة بعد أخرى لمغادرة قواعد العمل السياسي المحكوم بالانتخابات، مع أنه يدرك أن المعارضة أصلا بنى "غير انتخابية"، حتى أنها ورغم فشلها الذريع تتحدث يوميا كـ"ممثلة للشعبـ"، وفي أحسن الأحول، تعتبر ذاتها أرشد من "الشعبـ" الذي لم يحسن الاختيار!!
وبمنطق الخصوصيات اليمنية، فإنه ولأول مرة منذ تولى الرئيس علي عبد الله صالح الحكم في 1978 تبقى المعارضة بعيدة عن المصلحة من الاستقرار والحوار، ومبرأة من أي مسؤولية تجاه الدولة وفقا للوعي الاجتماعي اليمني الذي يشترط مصلحة مباشرة للمشاركة في تحمل المسؤوليات.
دولة النوايا والادعاءات
ومقابل ذلك التعامل المؤتمري مع المعارضة، ومع ما أشرنا له من "تحولات" بسبب الانتخابات، وخلافا للمتوقع؛ فإن الأداء الرسمي يواصل ليس مجرد تباهيه بالفوز الانتخابي، بل وتقديم خطاب عن الإنجازات المتحققة والمشاريع العملاقة والثروات المنتظرة، وغالبها نوايا ومخططات. وللقارئ أن يتخيل تأثير مثل هذا الخطاب على المواطن الذي ومنذ ذلك الفوز -الذي كان فعلا شريكا في صنعه- لم تستقر أسعار احتياجاته اليومية، ولا زادت فرص عمله أو تحسن دخله. والأخيرة ليست ادعاءات ولا نوايا.
الصراع على التشدد
ومع الاعتراف بالجميل للمتقاعدين، فلا بد أيضا من تقدير المؤسسة الرسمية فقط منذ تحركت ميدانيا وتجاه قضايا التقاعد بالذات. ولأني شاركت في الاستماع للنقاشات بين الطرفين فإني أتمنى فعلا أن يغري نجاح الدولة في معالجة هذه القضية على اعتماد ذات الأسلوب الذي للأسف لا ينقل كما يستحق عبر وسائل الإعلام، لا الممولة من الحكومة ولا -من باب أولى- المعتاشة على علاقة بقارئ محدود ونزق قد يعاقبها على مجرد نقل واقعة لا تروق له سياسيا. أو لعل السبب قرار ما يبقي الإعلام بعيدا خوفا من "إثارة أطماع المواطنين" بمعاملات مماثلة.
غير أن حديثي هنا لا يعني دعوة المعارضة، للتسبيح بـ"جميل السلطة"، و"تفاعلها في شقه الإيجابي"، وإن كان يمكن استخدامه مدخلا للإشارة إلى أن طول تعامل المؤسسات الرسمية غير الرشيد مع القضايا، أوصل بعضنا -ومنا بعض أصحاب الحقوق- إلى منهج غير مثمر، كأنه يخاف أن يحقق نجاحا ما، لذا فكلما حقق (بعضنا) نجاحا مطلبيا وحقوقيا زاد في حدة خطابه، ثم للأسف يسأل نفسه لم لا يثمر نضاله؟ ولماذا تكسب السلطة رغم أنها لم تقدم للناس متطلباتهم إلا بسبب نضاله؟ غير معترف أن "الحدة" هي التي أخرجته من الشراكة المحلية وقللت من دائرة مناصريه الذي ينصرفون عنه تجاه الأهداف التي بدأوا معا النضال في سبيلها، خاصة وأن اليمن توفر له تاريخ متشبع من الصراعات التي لا تفضي إلى شيء، في ميدان التنمية مهما تحدث المنتصر عن مبادئ "عظيمة".
ومن المفيد هنا، أن أورد جملة ناقدة سمعتها من "لحسون صالح مصلح"، حيث طالب بعض قيادات الاحتجاجات بتجنب "المنهج القديم الذي كان يتنافس فيه الجميع على التشدد لإثبات المسؤولية". وأزيد من عندي أن هذا سلوك يقدس الصراعات ولا يمارس السياسة ولا يدافع عن مصالح وحقوق.
ضد مقايضة الحقوق بالحريات، والتحالفات بالمخاتلة
ليس المطلوب القبول بأي تسويات يكون هدفها إلغاء الآليات الحديثة التي نشأت بفعل الاحتجاجات الحقوقية، سواء الجمعيات أو الاعتصامات أو الاصطفافات؛ إذ ذاك أيضا خطأ فاحش. ولكن الأمر فقط بحاجة لتعديل دائم للخطاب ومراجعة ذاتية والإقرار للمؤسسات الرسمية بأي إيجابيات، والتأكيد على المسئوليات الوطنية للجميع، والتخلص من الجمل التي قد قيلت مليون مرة، ولم يزد تكرارها أصحابها سوى خذلانا، (أخص الإصلاحيين هنا بالتنبيه إلى أن اليمن تحتاجهم خطابا جديدا لا مجرد صدى خطابات قديمة لن تفعل أكثر من جرهم لذات الحفرة التي تكاد تبتلع قوى كانت أكبر منهم وأعظم). إن تبني فروع التجمع اليمني للإصلاح التي تكتظ باختلاط يمني من كل محافظة مفردات "صراع المناطق" مثلا، وعودة الحزب الاشتراكي إلى خطاب الأزمة السياسية التي انتهت بهزيمته مرة من قبل، قد تربك المؤتمر الشعبي العام ورئيسه، لكنها لن تثمر شيئا للحركة الوطنية بل ستكون هذه الأحزاب هي أولى ضحاياها لصالح خصوم مشروعها، وكثير منهم يعملون من داخلها.
كما إنه ليس مقبولا القول إنه طالما ونحن متفقون على وجود "مظالم" فعلينا التغاضي عن "أخطاء ترافق التعبير عنها"، أو القول إن من العيب مطالبة "المنتهكة حقوقهم بتقديم خطاب راشد". إنه لم يقتل الحقوق سوى سوء التعبير عنها، والمكان الطبيعي للمأزومين هو "الصفوف الخلفية" وليس الصدارة، لأنهم في الأخيرة يتحولون من حيث لا يقصدون إلى أحد مصادر انتهاك الحقوق، مع سوء مضاعف سببه احتماؤهم بالموقف النضالي من أي نقد لهم.
إشارات
> في الضالع ومع اعتزازه بـ"حزبه المؤتمر الشعبي العام" الذي طالبه بـ"تقديم نموذج للمعارضة باعتباره خارج المجلس المحلي المنتخبـ"، خاطب وزير الإدارة المحلية، "حكومة اللقاء المشتركـ" ذي الأغلبية المطلقة في المجلس المحلي، مطالبا إياهم بتقديم نموذج لسلطة تدير مصالح مواطنيها، من انتخبهم أو لم ينتخبهم"، مؤكدا لهم "دعم القيادة السياسية في صنعاء لهم رغم اختلاف الأحزابـ".
الموقف لقي ترحيبا حقيقيا، فاليمنيون يريدون أن يسمعوا مسؤوليهم يقولون لهم ولو ما هي مجرد طموحات.
وعلى طور طريق "الأزارق" في ذات المحافظة، والتي لم يزرها مسؤول منذ دولة علي ناصر محمد، كان الناس يتمتمون بـ"الطريق" الذي يبدو وكأن حكومة المؤتمر الشعبي أبقته كوسيلة للدعاية الانتخابية!! تخيلوا كيف يمكن إقناع مواطن بأن عليه أن يثق بدولة تعجز فقط عن تنفيذ ما تكررت وعودها به!؟ يقال الآن إن مقاولا جديدا بدأ العمل هناك، بعد سحب المشروع من المقاول السابق... الله يعين.
> في عدن وبوجل نبه متقاعدون من قيادات الطرف المهزوم في حرب 94 لـ"أسر يمنيين فقدت عائلها الذي كان واقفا ضد "الشرعية". كان التوجيه الذي لو طبق -مع حق التأكد من مستحقيه- لكان إنجازا يستحق الإجلال. التوجيه كان "دولة الوحدة تسع شهداءها"، فالفتنة قد "هزمت لعن الله من يسعى لإيقاظها".
> قلت لأحدهم إننا لسنا بحاجة (نحن) لـ"أي يوم شطري للاحتفال به"، فأيا ما سيقوله السياسيون عن ذلك العهد، فليس معهم من صواب في مدحه إلا كونه "قد مر وانتهى ولن يعود". قال لي: فلماذا يحتفل الإعلام الرسمي بـ"17 يوليو 1978"؟ ألجمني، فلم أجد جوابا.
المتقاعدون ليسوا جنودا في معسكرات من يتحدث باسمهم، والحديث عن صراع الشمال والجنوب تجريب لمجرب مهترئ.. من إفساد قرار العفو إلى سوء تقدير واجبات النصر الانتخابي.. هكذا أنجز «المؤتمر» مهمته ضد د
2007-08-16