بنيامين نتنياهو في أحدث تصريحاته يقول: سوف نحافظ على القدس موحدة كاملة تحت سلطة إسرائيل، وسنحث العالم على الاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، ونشجع على نقل السفارات إليها.
تصريح ناري لا يهز للحكام العرب شعرة واحدة، بل قد يصل بنا الحال إلى القول إن بعضهم قد يباركونها من هول الخذلان الذي نراه.
ففي الوقت الذي يمعن فيه الاحتلال في جرائمه ضد الإنسانية التي تعد من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخنا الحديث داخل قطاع غزة، ويمحو أسرًا بأكملها من سجلاتها المدنية، ويمعن في تجويع الأطفال والنساء والشيوخ والجميع، ويمنع وصول الإمدادات والمساعدت الطبية اللازمة لإنقاذ حياة من تبقوا، إن كان لايزال هناك أمل في البقاء نتيجة الحصار الخانق والعدوان المتواصل، كان لافتًا وصادمًا جدًا غياب القضية الفلسطينية عن طاولة النقاشات بين بعض القادة العرب والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال زيارته الأخيرة للمنطقة. غاب الحديث عن غزة، وعن الموت البطيء الذي يعيشه أكثر من مليوني إنسان، بينما حضرت مشاريع الاستثمار والشراكات الاقتصادية في صدارة اللقاءات، وقدمت تريليونات الدولارات لترامب على طبق من ذهب.
يقول سكوت بيسنت، وزير الخزانة الأمريكي: الدول الخليجية هي الأغنى في العالم، وهي تضخ الآن أموالها في أمريكا! من يهتم بتخفيض تصنيف موديز؟ قطر لا تهتم. السعودية لا تهتم.. الإمارات لا تهتم... الجميع يضخ التريليونات في بلدنا!".
اللافت أن هذا الغياب جاء رغم أن ترامب هو نفسه صاحب مشروع "صفقة القرن"، في ولايته الأولى ٢٠١٧، التي مثّلت محاولة صريحة لتصفية القضية الفلسطينية عبر فرض وقائع سياسية وأمنية تكرّس الاحتلال، وتنهي حق العودة، وتُخرج القدس من دائرة التفاوض. ومع ذلك، تم التعامل معه في بعض الأوساط الرسمية العربية المتمثلة في السعودية والإمارات وقطر، باعتباره شريكًا اقتصاديًا، دون مراجعة لمواقفه المعلنة التي تضمنت دعوات صريحة لتهجير الفلسطينيين خارج أرضهم.
بل على العكس تمامًا جاءت هذه الشراكة في هذا الوقت لتعزيز التطبيع مع إسرائيل، مع التأكيد على عدم ربط الأمور ببعضها، وكانت سوريا برئاسة الشرع هي رأس الحربة الأولى في هذه المرحلة التي بدروها تلقت أولى خطوات الترحيب بعلاقات قريبة أمنية وسياسية مع إسرائيل.
إن مشهد صمت الحكام العرب عن مآسي غزة لا يمكن قراءته بمعزل عن مسار سياسي طويل بدأ بالتطبيع العلني في اتفاقيات أبراهام، ويمر اليوم بمناخ إقليمي يتجنب الحديث عن فلسطين، أو يضعها في الهامش، رغم أن ما يجري على الأرض هو كارثة إنسانية وسياسية بكل المقاييس، كارثة إنسانية حركت شعوب العالم الغربي بعيدًا عن حكوماتها التي تغض الطرف عن مواقفها الأخيرة تجاه حرب الإبادة الجماعية التي تتم في غزة، في حين لم تحرك في العالم العربي بحجم هذا الخضم والغضب العارم.
لقد بات واضحًا أن "صفقة القرن" لربما لم تنتهِ بانتهاء ولاية ترامب الأولى، بل تجدد نفسها في صيغة جديدة عبر بوابة الاستثمار، وتُمرر عبر اتفاقيات تُغيب الحقوق الفلسطينية مقابل وعود اقتصادية واستثمارية ضخمة، ناهيك عن الأهداف غير المعلنة في الوقت الراهن، في وقت لا تستطيع فيه هذه الدول إيصال قنينة ماء واحدة إلى غزة المحاصرة، بل تقفز فوق معاناة الفلسطينيين، وتهمش قضيتهم في اللقاءات الرسمية. إن هذه الخيانة إن صح تعبيري لا تخدم الأمن الإقليمي، بل تعمّق مشاعر الغضب والخذلان لدى الشعوب، وتؤكد أن بعض الأنظمة تخلت عمليًا عن التزاماتها التاريخية تجاه واحدة من أعدل القضايا في التاريخ المعاصر.
ورغم هذا المشهد القاتم، تبقى فلسطين قضية حية في وجدان الشعوب. وتبقى غزة رمزًا للصمود في وجه الحصار، والعدوان، والتواطؤ. يقول الفيلسوف الفرنسي الكبير إدغار موران بحرقة: "أرى صمت العالم وصمت الولايات المتحدة داعمة إسرائيل وصمت الدول العربية وصمت أوروبا التي تدعي أنها تدافع عن الإنسانية. نحن نعيش مأساة مروعة، إذا كنا عاجزين عن المقاومة بشكل ملموس، فلنكن شهودًا، الشيء الوحيد الذي بقي إذا كنا عاجزين عن المقاومة الملموسة، فلنقاوم بأرواحنا، لا ندع أنفسنا نُخدع، لا ننسى. فلتكن لنا شجاعة النظر للأشياء وجهًا لوجه".