صباح يوم الاثنين، 25 نوفمبر 2024، انتهت رحلة المبدعة الكبيرة مها ناجي صلاح، في هذه الحياة، تاركة آثارًا عميقة في مجالات الإبداع الأدبي والنشاط الاجتماعي والعمل الإداري.
ورغم قصر رحلتها (٤٦ عامًا)، إلا أن إنتاجها المتخصص في أدب الطفل وشخصيتها المميزة جعلاها اسمًا استثنائيًا.
وُلدت مها في عام 1978، وترعرعت في بيئة ثقافية غنية. فقد كان والدها الأستاذ ناجي صلاح ناشطًا يساريًا وشخصية مرموقة في الأوساط اليمنية.
ومنذ سن مبكرة، بدأت مها رحلتها الأدبية من خلال كتابة القصص القصيرة، وأسست مسيرتها الأدبية المشرقة التي تكللت بإصدار عدد من الكتب السردية وقصص الأطفال، مثل "كيف أنام دون حكاية؟" و"كانت تأخذني التفاصيل" و"الشجرة تثمر بسكويتًا" و"الزهرة تعبر جدارها الأخير".
كل نص من أعمالها كان إما يعبر عن رؤية إنسانية عميقة، أو يستكشف قضايا الطفولة والحقوق الاجتماعية، أو يغامر في طريق الإبداع، مع مراعاة معايير النوع الذي تكتبه، كعادة الكتاب المتنوعين ومتعددي المجالات الإبداعية.
لم تكن مها كاتبة فقط، بل كانت ناشطة اجتماعية مرموقة. أسست في عام 2004 مؤسسة "إبحار للطفولة والإبداع"، ومن اسم المؤسسة أخذت عنوان هذا المقال، فهو يمثل أهم ما فعلته، ومن خلالها انطلقت لتكون من أبرز الوجوه الناشطة في تنمية إبداعات الأطفال ورعايتهم. وقد شهدنا كيف أصبح طلابها، الذين كانوا ينادونها "ماما مها"، شخصيات مؤثرة في الأنشطة الاجتماعية والفنية والمسرحية، بالإضافة إلى عملها مع آخرين في البحوث والتطوير الإداري وبناء القدرات.
ذات صباح، وأنا منهمك في عملي المكتبي، سمعت ضحكة مميزة قادمة من الحديقة المجاورة للمبنى الذي أعمل فيه. بعدها دخلت مها، وكنت محظوظًا بالتعرف عليها للمرة الأولى في لقاء شخصي. وإذا كان "المكتوب يبان من عنوانه"، كما يقول المثل الشعبي، فقد كانت تلك الضحكة هي عنوان مها، الذي استمر يرافقها كأبرز سمة في شخصيتها.
عانت مها من العديد من المشكلات على الصعيدين الشخصي والعملي، لكنها كانت تواجه كل ذلك بأمرَين: المحبة المتدفقة منها دائمًا، وضحكتها المميزة والعالية. وهذان هما العمودان اللذان شعرت أنهما هويا بوفاة مها. وانسحبا من المشهد كانسحاب الحياة كلها.
عندما تقرأ نصوص مها الموجهة للأطفال، تكتشف أنك أمام قلم من القلة المتبقية التي اهتمت بهذا المجال في المشهد الثقافي في اليمن. وتعجب بأدائها الإعلامي المميز أثناء تقديم وإدارة الفعاليات، وتندهش في كل لقاء باكتشاف شيء مميز في شخصيتها. فعلى سبيل المثال، حين كنا نستدعي نصًا أو قصيدة للشاعر الراحل الكبير محمد حسين هيثم، وهو من الشخصيات الملهمة في حياة مها، كانت تلتقط هذا النص أو المقتطف لتقوم بإلقائه بأداء مميز وبشكل مباشر في نفس الجلسة، إذ تحفظ معظم نصوصه. وأثناء الأداء، تكشف وتكتشف جانبًا جديدًا في شخصيتها، وهو الإبداع المسرحي؛ فهي فنانة مسرح كبيرة، يظهر ذلك من خلال تقديمها لشخصية الحكواتية، وهي تؤدي قصص الأطفال بتمثيل أمامهم في العديد من الأنشطة، وتظهر في إلقائها المميز للشعر.
أكدت سابقًا في حلقات هذه السلسلة أن وفاة الشخصيات المؤثرة والممتلئة تعزز الخسارة في الحياة الثقافية التي بدأت فعلاً بانهيار المؤسسات. وقد انهارت معظم المؤسسات التي كانت تعمل في الشأن الثقافي، ومن بينها مؤسسة "إبحار للطفولة والإبداع"، أو على الأقل توقف نشاطها خلال السنوات الأربع الأخيرة من عمر مؤسِّسَتها الأستاذة مها صلاح، وهو وضع طبيعي في ظل تردي الوضع العام.
يتوسع الغياب كل يوم، ويزداد الفقد كل يوم، كما حدث في هذا اليوم، وأنا أشاهد بناتها وأبناءها الذين لم تلدهم -ومنهم من أصبح أستاذًا أو مديرًا أو مدربًا- وهم في رواق المستشفى، يعانون من الانهيار، كأنهم أطفال بالفعل، ينصدمون بفقد أمهم: أم الطفولة والإبداع.. مها ناجي صلاح.