صنعاء 19C امطار خفيفة

قصة صورة

2024-11-16
قصة صورة
الكاتب إلى جوار نجله اثناء العمل على بسطة في الشارع

كنت عاطلًا عن العمل. ثمانية أشهر عشتها بكثير من الصعوبات والتحديات، بعد أن توقفت الصحيفة التي كنت أعمل فيها، العام 2015، بفعل الحرب التي اندلعت في اليمن، أواخر مارس من ذاك العام، ومازالت أحداثها مستمرة ومتصلة، وتداعياتها متسلسلة ومتناسلة، ولاتزال البلاد تشهد حالة انقسام متعدد الأوجه حتى الوقت الراهن.

 
تقلّصت فرص العمل، ولم يتبدّد لديَّ الأمل. ظل بعض الزملاء والأصدقاء يتعهدونني بالتفاتاتٍ كريمة، ويجودون بما يستطيعون، ولكنني، طوال تلك الفترة العصيبة، كنت دائمًا أطلب عملًا لا مالًا. حصلت على بعض الأعمال المؤقتة التي نلت مقابلها بعض ما يوفر لي الحد الأدنى من قوت أسرتي الصغيرة التي صبرت على ضيق الحال، وتحملت شظف العيش، وما أدفع منه إيجار الشقة التي يصر صاحب البيت أن أدفعه كاملًا، ولا يعنيه إن كنت أعمل أو بدون عمل، وهو الأمر الذي عانى منه، حينها، كثيرون حيال تعنت المؤجرين، واستشراسهم رغم الظروف الصعبة التي يعيشها ذوو الدخل المحدود، والذين تعطلوا بسبب توقف كثير من مؤسسات ومرافق الأعمال.
 
ذات يوم، رأيت شابًا يبدو مهندمًا، يفترش وسط السوق، مع بعض المعلبات الغذائية والبسكويتات، في ما يُعرف شعبيًا بـ"البسطة"، وكنت حينها أُعد تحقيقًا صحفيًا حول العاطلين عن العمل، والبدائل التي لجأوا إليها. تحدثت مع ذاك الشاب، وتناولت قصته ضمن التحقيق. صرنا صديقين، وبعد فترةٍ عرض عليَّ أن أتولى "البسطة" من الصباح إلى الظهر، مقابل تقاسم "الربح" مناصفة. وعلى غير رغبة مني، خضت التجربة البائسة، وكان ما أجنيه بالكاد يفي بقيمة وجبة واحدة في اليوم، لكنني مضطر لتحمل التعب والإجهاد، ومذلة التعامل مع بعض المتسوقين، والتعرض للسرقات التي تحدث أحيانًا على حين غفلة.
 
وذات صباح بارد من أيام نوفمبر (الخامس عشر منه تحديدًا)، أعطيت تليفوني لأحدهم، طالبًا منه التقاط صورة، وكانت هذه الصورة التي نشرتها يومذاك في "فيسبوك"، ونالت الكثير من التفاعل، ونلت الكثير من التعاطف.
 
استمررت في ذلك أسابيع قليلة، قبل أن أحصل على بعض المال، وأشتري به المنتجات ذاتها، لأبيعها في المكان نفسه، خلفًا لصديقي الذي فتح الله عليه، وحصل على وسيلة رزق أخرى. ولم ألبث بعدها إلا قليلًا حتى وجدت عملًا جديدًا، وانسحبت تدريجيًا من السوق.
 
تلك التجربة المضنية والقاسية (فقدان العمل الصحفي، والانخراط بالعمل في السوق)، لم تخلُ من الدروس والعبر، ومن بعض المفاجآت والتحولات، التي خرجت منها بالكثير من الاستخلاصات والنتائج السلبية والإيجابية. خبرت معادن الأصدقاء والزملاء، وحصلت على دعم لم أنتظره، وخذلان لم أتوقعه، وعرفت من لديه فائق إحساس، ومن هو فاقد الإحسان. إن تذكُّر تلك الأمور مرهق لذهني، ومؤلم لنفسي، فما بالبال بالكتابة عنها، وتوثيق قسوتها!
وفي السوق، عايشت أشخاصًا، وشاهدت أحداثًا، وشهدت على مواقف، ورصدت قصصًا، وتعاملت مع أصناف من الناس، وواجهت أشكالًا من المشكلات، وقاسيت أنواعًا من المعاناة... وهل السوق إلا صورة مصغرة للبلد الذي استحكمت أزماته، وتفاقمت صراعات أبنائه، وتقاطعت فيه مصالح الطامعين، وتقطعت به سبل السلام، وتكالبت عليه الأيادي العابثة من الداخل والخارج!
حقًا، لم تكن تجربة واحدة. إنها تجارب عديدة ومثيرة، ولكل منها قصة وعبرة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً