صنعاء 19C امطار خفيفة

جرح جدير به أن ينزف

قبل ما يقرب من عشرة أيام ذهبت مع الوالد لتقديم واجب العزاء للعم الأستاذ علي مكنون  في بيته  في حي سعوان لمقتل ابنه الشاب مجد. جلسنا قليلاً معه، وكان  في حالة أشفقت عليه منها؛ فقد توالت على هذا الرجل المسن النكبة إثر النكبة. 

 
علي مكنون ونجليه مجد وعمار
كانت نكبته الأولى اتهام ابنه عمار أحد الموظفين  في مطار صنعاء، بالتورط بتهريب التوراة من المطار بعد فترة قصيرة من زواجه. هذه النسخة التي ظهر بها نتنياهو على شاشات التلفزيون، وهو يتسلمها من أحد اليهود اليمنيين بابتهاج. 
 
قضى عمار قرابة ثلاث سنوات  في السجن، وخرج إنسانًا مسحوقًا مُحطَّمًا. 
 
كيف لموظف بسيط مثل عمار أن يدخل  في تفاصيل عملية خطرة كهذه؟! 
 
ولِمِ كل هذه الحسرة على التوراة؟ هل تعتبرونها تراثًا وطنيًا أو قوميًا؟ 
 
لقد ذهب الأصل فما بقاء الفرع بعده؟! 
 
أنتم كمن قام بقطع شجرة، ثم أراد من العصفور أن يغرد فوق أغصانها التي قُطِعَت! 
 
وما الأسباب التي تقف وراء خروج هذه النسخة النادرة من التوراة  في فترة حكمكم، وقد ظلت لقرون محفوظة لم تبرح مكانها. 
 
مثل هذه العملية تتطلب قدرة ونفوذًا، وشبكة منظمة واتصالات عميقة بين أفرادها، وراجعوا إن شئتم كتاب الدكتور محمد عيسى صالحية «تغريب التراث العربي»؛ لتعلموا كيف هربت وبيعت الآثار والمخطوطات اليمنية، ولا زال التراث اليمني ينزف حتى الآن. 
 
الحقيقة أنكم هجرتم مواطنيكم وشردتموهم عن وطنهم الذي يقيمون فيه منذ آلاف السنين بحسب تعاليم الإسلام، فكان ماذا؟ 
 

وأين هم الآن؟ 

 
إنهم الآن  في فلسطين يقومون بنفس الدور الذي تقومون به  في هذه البلد مع مواطنيكم. 
 
لا يخفى الدور الذي لعبته الحركة الصهيونية  في هجرة اليهود، وبالأخص العرب منهم إلى فلسطين. 
 
لقد كان التهجير الذي قمتم به لمواطنيكم هي بمثابة عملية أخيرة ومكملة لعملية «بساط الريح» التي تم فيها الهجرة الجماعية ليهود اليمن بين عامي 1949-1950. 
 
في مجلس مقيل جمعني بأحدهم سألته: لماذا هجرتم اليهود من قراهم  في صعدة من آل سالم وغيرها من القرى اليمنية كريدة وعمران؟ 
 
فأجابني إنهم جواسيس. 
 
فقلت له: بعضهم يعمل  في حرف بسيطة، وهم على مستوى متواضع من التعليم، فمنهم الإسكافي، ومنهم صائغ الفضة، أو البناء، فهل يعقل أن يكون مثل هؤلاء جواسيسًا؟ 
 
تعاقب على حكم اليمن دول كثيرة من زياديين ونجاحيين وصليحيين وأيوبيين ورسوليين وطاهريين وعثمانيين وأئمة زيديين استمروا من بين من سبقهم بالحكم  في حالات مد وجزر حسب الظروف التي اقتضت ذلك، وكان من هؤلاء الأئمة من بلغ رتبة الاجتهاد وعرف بالصلاح والتقوى، وبعضهم كانوا ملوكًا متغلبين كغيرهم من ملوك الأرض ممن ملؤوا الدنيا جورًا، وأثقلوا على مواطنيهم بالجبايات والمكوس والقِبالات. 
 
ومع ذلك ظلت هذه الأقلية الدينية - في أغلب أحوالها- تتمتع بحرية دينية واقتصادية واجتماعية كفلتها دولة ثيوقراطية (دينية) مستندةً إلى تعاليم الدين وقيم الإسلام. 
 
تذكر الدكتورة كاميليا أبو جبل أنه بعد عام من انتقال الإمام يحيى من الروضة إلى صنعاء  في العام 1905هـ، استقبل في يومه التالي وفدًا يهوديًّا طلب منهم الإمام تعيين أربعة من رؤسائهم الدينيين، ثم تلا الإمام على الوفد اليهودي بيانًا يتضمن خمسة عشر بندًا تتعلق بالجزية والسلوك العام لليهود  في المجتمع اليمني. 
 
وتقول: "وجاء بيان الإمام أكثر مرونةً من شروط عمر بن الخطاب حول أهل الذمة، وأنَّ ما تضمنه بيان الإمام يحيى كان لا يخص اليهود فقط بل كان له طابع الإلزام". 
 
كما ذكرت الباحثة إقامة الإمام بباب الصباح (السبح) ريثما أنجز البناؤون، ومعظمهم من اليهود، بناء قصريه: دار السعادة، ودار الشكر. 
 
وتعقب بقولها: "وكدليل على متانة العلاقة بين الإمام وزعماء الطائفة اليهودية  في اليمن خص الإمام الوفد اليهودي بترحاب خاص عندما قال: 
 
"تقدموا يا أحبار اليهود واجلسوا. ثم أردف قائلاً:" إن هذا الذمي  -ويقصد إبراهيم البديحي- عرفته منذ كنت صغيرًا من خلال علاقته مع أبي. 
 
واعلموا يا معشر المسلمين أنه من الآن فصاعدًا اعتبر كل يهودي ويهودية كما الشعرة  في رأسي. من يسيء إليهم، أنتقم منه بالدم، ولا يحق لأحد اعتراضهم. وإذا جئتم إلينا أيها اليهود حكمنا لكم بشريعة رسول الله". 
 
ثم تقول الباحثة أبو جبل:" وسُرَّ الأحبار بما سمعوا وما أنجزوا، وتقديرًا لموقف الإمام أقام اليهود  في أول يوم سبت بعد عودة الإمام إلى صنعاء الصلوات  في كل الكنس اليهودية  في اليمن". 
 
(يهود اليمن: دراسة سياسية واقتصادية واجتماعية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، أطروحة دكتوراه مقدمة إلى جامعة دمشق، كلية الآداب، قسم التاريخ، 1412هـ/ 1992، ص49).    
 
وتذكر الباحثة أيضًا أنه  في العام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية أرسل الحاخام سالم الجمل رسالة تهنئة خاصة للإمام يشكره فيها (على الأمان والهدوء والاستقرار) الذي يعيشه اليهود  في وقت يتعرض له اليهود  في كل العالم إلى الظلم والأذى. 
 
فرد الإمام على رسالة الجمل "بأنه فرح؛ لأن اليهود يعترفون بالخير الذي ينعمون به، وأنهم ينعمون بالأمان  في بلد يحكمه الإمام". (المصدر نفسه، ص70). 
 
ويذكر حبشوش  في رحلته مع هاليفي أنَّ يهود أرحب من شدة فقرهم أشفق عليهم القبائل، وحملوا جزيتهم إلى الدولة العثمانية، وسلموها من أكياسهم. 
 
ويقول: إنَّ دية القتيل عند أهل اليمن قدرها سبع مئة وسبعين ريال، وأما اليهودي فديته  في حكم القبائل بالمربوع (أربعة أضعاف)؛ وذلك ثلاثة آلاف وثمانين ريال، والإقدام على اليهودي ولو بنتف شعره من زناره عقابه شديد  في حكم القبائل". (قراءات  في التراث والتسامح، لكاتب هذا المقال، هامش1، ص31). 
 
هذا هو سلوك اليمنيين بحكامه وقبائله تجاه هذه الأقلية الدينية، وكان هو السائد في الحضارة الإسلامية، ومنه تعلم العالم المتمدن هذه الأخلاق العظيمة. 
 
لقد لاحظ فولتير "أنَّ أرض المسلمين مليئة بالكنائس، وأرض المسيحية خالية من أي مسجد". (مفهوم العقل، للعروي، ص57). 
 
ويقول برنارد لويس (وهو صهيوني متعصب): "نجح الإسلام التقليدي، ولم تنجح المسيحية  في الحقيقة يوماً  في جمع التسامح الديني مع الإيمان الديني العميق. فلم يشمل الإسلام بتسامحه غير المؤمنين فقط، بل الهراطقة أيضاً. وهذا اختيار أصعب بكثير.. 
 
وفي الصعيد الاجتماعي كان الإسلام ديمقراطياً على الدوام، أو كان بالأحرى يقول بالمساواة، فيرفض المجموعات المنغلقة كما  في الهند، ويرفض الامتيازات الارستوقراطية كما في أوروبا. (من يحمي المسيحيين العرب؟، فكتور سحاب، ص64). 
 
أما المصيبة الثانية التي حلت على العم علي مكنون، فهو قتل ابنه الشاب مجد، إثر شجار حصل بين أحد أصدقائه وبعض الشباب من نفس الحي، وفي اليوم الثاني وأثناء مشيه مع صديقه، تم إطلاق النار عليهم، فمات مجد، وأصيب صاحبه الذي أدخل العناية المركزة ثم لحق بصاحبه. 
 
وفي الوقت الذي نشكر الجهات الأمنية التي قبضت على المتهمين، لكن علينا أن نقف أمام هذه الظاهرة التي نكب بها الشعب اليمني، وهي ظاهرة حمل السلاح وانتشاره. 
 
ثم على الجهات المسئولة أن تراجع أسباب تفشي جرائم القتل والسرقة. فانسداد الأفق أمام هؤلاء الشباب يجعلهم فريسة للبطالة والفراغ وارتكاب شتى الجرائم. فلا أعمال يقومون بها، ولا مرتبات يتقاضونها، ولا أمل يلوح لهم لبناء مستقبلهم الذي ينشدونه. لو أن حياة هؤلاء الشباب على ما يرام لما أقدم أكثرهم على ارتكاب مثل هذه الأفعال. 
 
كان يعمل  في مؤسسة 14 أكتوبر في جنوب الوطن قبل الوحدة حوالي 600 موظف، ولما سأل أحد الزائرين رئيس المؤسسة  في ذلك الوقت عن ضخامة هذا العدد من الموظفين؟ 
 
أجاب رئيس المؤسسة بأن الحكومة تعمل قدر الإمكان على تقليص البطالة والحد منها  في صفوف الشعب؛ لأنه إذا وجد الشباب أنفسهم بلا أعمال ولا مصادر دخل؛ صاروا بطالين وامتدت أيديهم للسرقة ووقعوا  في شراك الجريمة. 
 
لكن أنتم  في أيديكم ضرائب تجنونها بالمليارات من المياه والكهرباء والجامعات والمدارس الخاصة التي صرتم تملكونها، وكذا الجمارك وضرائب القات، وقد أثرت قياداتكم ثراءً فاحشًا، والأرض من حولكم تشكو الظمأ، والناس يتضورون من الجوع. 
 
قمتم بإعدام أبناء تهامة بتهمة التآمر على قتل الرئيس الصماد، والناس يعلمون أنهم ليسوا جناتها، ولا ناقة لهم  فيها ولا جمل. 
 
هل يعقل أن يكون لأصحاب تهامة معرفة بتفاصيل تحركات الرئيس الصماد، من أين جاء، وإلى أين هو ذاهب؟! 
 
حين دخلت أنا وأحد الأصدقاء إلى مكتب رئاسة الجمهورية أيام ثورة المؤسسات، لاحظ صديقي أن كل موظفي الرئاسة لون واحد، وهذا اللون صار أضيق مما كان عليه  في عهدكم. 
 
كان لا بد من كبش فداء  في حادثة قتل الصماد، فاخترتم أبناء تهامة مستحلين دماءهم بدون وجه حق. 
 
اعتقلتم رباب المضواحي، واعتقلتم زوجها معها بتهمة التجسس، واعتقلتم لبيب شايف العبسي، وأكرم ياسين الأكحلي، واعتقلتم عدنان الحرازي صاحب منظمة برودجي، وحكمتم عليه بالإعدام، ولديه أسرة وزوجه ومئات الموظفين اليمنيين ممن يعملون معه قطعتم أرزاقهم؛ ليواجهوا الفقر والعوز والحاجة، وأنتم تتقلبون  في النعيم والترف والمال الحرام الذي تأكلونه. 
 
اعتقلتم زيدون ابن الوالد زيد جحاف ومات  في السجن تحت التعذيب. فما هي جريمته؟ 
 
يقال: إنه زور خط السيد! 
 
ليكن ذلك كذلك، هل هذا يبيح لكم تعذيبه حتى الموت. لو أنه زور خط الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لما حل قتله. 
 
ذكر المؤرخون أن بعض اليهود أظهر كتابًا وادعى أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة. ذكروا أن خط علي بن أبي طالب فيه، وعرض الكتاب على الخطيب البغدادي فتأمله، ثم قال: هذا مزور. 
 
قيل له: ومن أين قلت ذلك؟ 
 
فقال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم عام الفتح سنة ثمان، وخيبر فتحت سنة سبع، ولم يكن مسلمًا في ذلك الوقت، ولا حضر ما جرى، وفيه شهادة سعد بن معاذ الأنصاري، ومات يوم بني قريظة بسهم أصابه في أكحله يوم الخندق، وذلك قبل فتح خيبر بسنتين، فاستحسن ذلك منه ولم يجزهم على ما في الكتاب. 
 
الخلاصة 
 
مالم تقوموا أنتم والشرعية المزعومة بمراجعة كاملة وإصلاح شامل لسياساتكم، ورفع المظالم عن هذا الشعب، والكف عنه، والقيام بصرف رواتبه، فإنكم لاحقون بأسلافكم ممن كانوا أشد منكم قوة وأعظم سلطانًا وأكثر أتباعًا. 
 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً