صنعاء 19C امطار خفيفة

بعد منتصف الليل في حوطة لحج

أشارت الساعة إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل بتوقيت "حوطة مزاحم بلجفار"، ولانتصاف الليل في هذه الرقعة الصغيرة من العالم معانٍ ودلالات وحكايات تختلف عن بقية الكوكب. هنا أسرار وقصص تضيء هذه البقعة الساحرة بواقعية شديدة وغرائبية عجيبة جدًا على نحو شبيه بروايات ماركيز. يختلط فيها جموح الخيال مع بساطة الواقع، الحلم المأمول مع الواقع المتاح.

 
قد تذهب نحو العمق أخيرًا لتجد نفسك أحد أبطال فيودور دوستويفسكي، تتلبسك تارة روح الأمير "ليف ميشكين" بطل رواية "الأبله"، فأنت اللحجي النبيل الذي تحاول دومًا أن تبقى طيبًا ونقيًا أمام بشاعة وقسوة الناس حولك. أنت تُعطي بلا حدود، ولست مؤمنًا بالنظرية النفعية التي يعتمدها مجتمعك. ستبدو أبله أمامهم، لكنك إنسان جميل أمام نفسك. قد تبدو ضعيفًا في مواجهة مجتمعك الذي يتطلب الكثير من القوة والانتهازية للصمود والنجاة. لكنها الأرض اللحجية الطيبة التي شكّلت هويتك، لن تكف عن شحذك بالمزيد من إرثها العريق من الخير والعطاء دون مقابل.
 
ستتصارع كثيرًا مع عالم فاسد، لكنك ستنجو بالخير الكثير بداخلك. ما الذي يبقيك على قيد الحياة متمسكًا بخيار العيش في هذه البقعة المهملة من العالم؟ لقد كانت أمامك فرص كثيرة للخروج منها. لمَ لم تفعل؟ كل ذلك بسبب كل الأغنيات والحكايات، الحكايات هنا تختلف عما ترويه الجدات غالبًا للأحفاد في قصص ما قبل النوم، حكاياتنا في هذه المدينة المنسية حكايات "إنسان" عشق "مكانًا"، فصار ملازمًا له لا ينفك عنه أبدًا، مهما رحل وارتحل يبدو أن "ما مع العاشق إلا دموعه"، سنبكي كثيرًا في هذه المدينة. وسنبكيها أكثر لسنوات قادمة، لكن تخوم عشقنا لها تتجاوز كل شيء، العشق الذي يتجاوز كل أبجدية، ويتخطى كل مألوف.
في مدينتنا هنا لا يُسمع لدقات "بيج بن" صوت، ولا حتى يُقال "هنا لندن". هنا فقط يغني "فيصل علوي" من كلمات وألحان الفيلسوف العاشق عبدالله هادي سُبيت:
"في نصيف الليل والعالم رقود
حيث لا شاهد سوى رب الوجود
في نصيف الليل باذكرك"
ولا ينسى أن يردد من كلمات وألحان القمندان:
اسقني.. اسقني
من أنكر العشق كذاب
قال غير الصواب
يا زين ليه التقلاب
 ثم يعود مجددًا على طريقة سُبيت:
"حتى البدر غاب ما بين السحاب
يخشى الالتهاب من كثر العتاب
ذاب القلب ذاب واحنا ذايبين
يا باهي الجبين"
وهنا أيضًا في الحوطة تتعطل النظرية النسبية لآينشتاين، فالزمكان لا يعني أبدًا أبعاد المكان الثلاثة التقليدية، ولا حتى الزمن باعتباره بُعدًا رابعًا. بل هنا يعيش الإنسان خارج هذا التقسيم وخارج كل هذه الأبعاد، فتقترن حياته بذكريات عاشها وعايشها، هكذا هو دائمًا الإنسان في هذه الرقعة المنسية من العالم، يمجد الذكريات، ويعيش عليها ما تبقى من أيامه. يجترها لينجو ويتماهى معها ليجد مغزى للمعاناة ومنطقًا للألم.
فيحكي لنا سعودي أحمد صالح، وهو يغني من كلمات الأمير صالح مهدي العبدلي، بلحن فائق الروعة:
"بقيت عايش على الذكرى وأيامي مطر وغيوم
ولو كان الهوى يُشرى لكان اليوم غير اليوم
زمان كان البكاء ينفع لأن الهجر كان موهوم
وأما اليوم لا يُسمع وسمعه في الهوى مختوم"
يبدو أن كل شيء في هذه المدينة يخفت ويذبل، فربما لذلك قال أحمد عباد الحسيني على لسان الأسطورة فيصل علوي:
"ما بك سخى يا ورد تذبل
وأنت في فصل الربيع
با أرويك من دمعي
وعند الله أجري ما يضيع
عوايدك تقفي وترجع
والمحب قلبه وسيع"
نعم نعم يا فيصل المحب قلبه وسيع، فأنت أيضًا قلت لمحبوبك ومن كلمات الحسيني:
"أوه منك، بس قل لي شو تُبا
فوش ما قد صاب قلبي من وبا
كل ما با تقول أمرك مرحبا
منيتي، ذا الروح منّي لك جَبَا"
وفي هذه المدينة التي هي أشبه بمملكة للحب، المحب فيها يناجي محبوبه، ويخبره أنه هو وحده حاكم ووالي هذه المملكة. وهذه الحقيقة يصدح بها فيصل علوي من البيان الرسمي رقم 1 لهذه المملكة الذي صاغه عبدالله هادي سُبيت:
"من قلبي ومن خاطري باك
يا ذي أنت على خاطري دايم
قد ذِكْرَكْ لقلبي أذانه
ربّ العرش للحُسن ولاّك
قد حطّك على أهل الهوى حاكم
يا حاكم ووالي زمانه"
تحيات ومحبات عظيمة لهذه المدينة، ولهذا الإبداع الساحر للأبد.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً