خرج إلى الشارع، بشيبته ووقاره، وهيئته وهندامه. يقف على حافة الطريق ليستوقف باص.
مر وقت طويل ولم يجد مبتغاه. هكذا يعاكسه الحظ أحيانًا، فلا يجد بغيته بالسرعة المطلوبة.
وعندما أشر لباص تنبه له متأخرًا، قال له الراكب الجالس بجوار السائق: الحقنا يا حاج، سنجد موقفًا مناسبًا وننتظرك.
وهو يهم باللحاق بالباص الذي وقف له، توقف أمامه فجأة باص آخر "لف" من الخط الثاني خصيصًا لأجله، وألح عليه السائق والركاب بمرافقتهم على نفس الباص.
اعتذر منهم على اعتبار أنه قد أوقف باص آخر وهو بانتظاره، لكنه لم يستطع الصمود أمام إلحاح سائق وركاب الباص الأخير، فركب الباص الذي كان شبه فارغ من الركاب عدا راكب يجلس بجوار السائق وراكب يجلس بجوار الباب الخلفي تمامًا، ويسد الطريق أمام الداخل والخارج كما هي عادة بعض الناس، رغم أن الباص فاضي من الركاب.
وأول ما جلس على كرسي الباص، بدأ يشعر بالريبة تجاه هؤلاء الثلاثة الذين كانوا يتبادلون الغمزات والإشارات التي فك الشيبة شيفرتها بدون صعوبة. وكلما مر الوقت زادت ريبته.
لاحظ أن الباص لا يتوقف للركاب الذين كانوا يستوقفونه طوال الخط.
وزادت ريبته عندما غير الباص خط سيره، ودخل في شارع فرعي بحجة الهروب من الازدحام.
وفي الشارع الفرعي كان الباص يمشي ببطء شديد فاستغل الراكب الذي كان يجلس على الباب الخلفي للباص الوضع، وانتزع جنبية الراكب الوقور الكبير في السن، وفر هاربًا في الأزقة الملتوية التي يبدو أنه يحفظها جيدًا.
صاح الحاج لصاحب الباص ونبهه إلى ما حدث وما فعله الراكب الذي كان بجانبه، فتوقف الباص وقفز الراكب الآخر من جوار السائق بحجة اللحاق بالسارق والقبض عليه، لكنه خرج ولم يعد.
كان البرود ظاهرًا على السائق، وكانت الغمزات واللمزات بين الثلاثة طوال الطريق قد أوحت للحاج أن الثلاثة يعملون كشركاء ضمن عصابة واحدة.
عرض السائق على الحاج المساعدة بالشكل الذي يراه، منها الذهاب إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن الحادثة وإخبارهم عن مواصفات السارق.
فقال الحاج: أرجوك يا ابني أنا في حالة انهيار شديد بسبب ما حدث، وعاجز عن الحركة أو التفكير، فيا ليت تتجمل معي وتوصلني إلى بيتي، وسأكرمك بمبلغ محترم مقابل ما عملته معي من معروف.
فرحب السائق بالفكرة، وتحمس لها، وأوصله إلى باب بيته.
ومن داخل الباص نادى الحاج على أولاده الذين يعملون في البقالة التابعة لهم، وطلب منهم الخروج إليه، فخرجوا. وعندما التفوا حوله، قال لهم باختصار:
هناك عصابة قامت بسرقة جنبيتي من فوق هذا الباص، ومن المؤكد أن صاحب الباص هذا شريك رئيسي معهم. وحتى نستعيد ما سرق لا بد من التحفظ على هذا السائق والباص. أدخلوا الباص إلى حوش البيت، واحبسوا السائق في المخزن المجاور للبقالة بدون أي أذية، ويبقى عندنا حتى ترجع الجنبية، سواء رجعت اليوم أو بعد شهر أو حتى بعد سنة.
نفذ الأولاد المهمة بلمح البصر، وجردوا السائق من تلفونه والأوراق التي في حوزته قبل إيداعه المخزن، وتفرغوا لاستقبال المكالمات الواردة إلى تلفون السائق.
ولأنهم يعرفون أنه لا يمكن لهم الكلام بنفس صوت السائق أو تقليده، فقد تعمدوا إرسال رسائل لكل متصل وإبلاغه أنه مشغول جدًا، وعليهم إرسال رسائل بما يريدون قوله.
فجاءت الرسائل تباعًا، فيها تفاصيل كثيرة، ومعلومات عن جرائم أخرى مشابهة.
ومن الرسائل اتضحت الصورة، وانكشفت أركان الجريمة وأعضاء العصابة بوضوح شديد، برسائل منهم ومن أرقامهم الخاصة وبشرح مستفيض.
أخذ أبناء الضحية التلفون إلى المخزن، وعرضوا الرسائل على السائق، وأخبروه أن لا فائدة من الإنكار، فكل شيء أصبح مكشوفًا ومعروفًا وبينًا.
وطلبوا منه الاتصال ببقية أفراد عصابته، وإلزامهم بالحضور إلى المكان الذي سيحدده لهم، ومعهم جنبية الحاج المسروقة قبل المغرب. ما لم فالوجه من الوجه أبيض.