كان التخطيط والإعداد لحرب الإبادة على غزة حاضرًا منذ الطلقة الأولى، وبدا الشعار الذي رفعته إسرائيل بـ"حق الدفاع عن النفس"، وتبنته الإدارة الأمريكية وأوروبا الاستعمارية، كما لو أنه معنىً من معاني حرب الإبادة.
منذ الطلقة الأولى مُنِعَ دخول كل شيء إلى غزة؛ الرقعة الضيقة المحاصرة لسبعة عشر عامًا، ومُنِعَ دخول الصحفيين كشهود لوقائع حرب الإبادة، وهم أهم دلائل وقوع هذه الجرائم، أما الذين كانوا موجودين فَقُتِلوا أو شُرِّدوا.
تتحدث وكالات الأنباء عن قتلى يصلون إلى 176 صحفيًّا، وبلغ الأمر بالعاملين في «الأونروا»، والمنظمات الإنسانية الأخرى إلى التخلي عن ملابسهم، أو ما يميزهم من الشارات الدالة على مهنهم؛ لأنها تجعلهم أكثر عُرْضَةً للاستهداف؛ الأمر الذي يعني قتل كل معاني الحياة، وعدم الإبقاء على شيء منها.
اشتراك أمريكا وأوروبا الاستعمارية إلى جانب إسرائيل يعطي للحرب أبعادًا كونية، وينذر بالقضاء المبرم على مواطني غزة الفلسطينيين، كما أن إرغام مصر على تقبُّل ما تبقى منهم كلاجئين في سيناء، بالإضافة إلى قرار الكنيست الإسرائيلي بحظر الأونروا، يعني التهجير القسري للفلسطينيين، وعدم تمكنهم من اللجوء داخل بلدهم بعد أن كان هذا اللجوء متاحًا في 1948، و1967.
هناك صحفيون فلسطينيون من مراسلي «قناة الجزيرة» أُبِيدتْ أسرهم كالصحفي وائل الدحدوح، والصحفي إسماعيل الغول الذي قُتل مع عدد من أفراد أسرته.
الصحفيون الفلسطينيون -كأبناء شعبهم- هم الأكثر استهدافًا واسستشهادًا، وبالأخص العاملون في «قناة الجزيرة».
بيانات وإدانات النقابتين الصحفيتين: الفلسطينية، والمصرية، هي الأكثر فاعلية وحضورًا.
«الاتحاد الدولي للصحفيين»، و«مراسلون بلا حدود» كان دورهم مشهودًا في الإدانة والتنديد والمطالبات بالمحاكمة والإجراءات على هذه الجرائم، أما بقية النقابات الصحفية العربية فغابت، وصوت «اتحاد الصحفيين العرب» خافت.
وبدأت جرائم قتل الصحفيين اللبنانيين. ولبنان المركز المؤسس للحريات الصحفية العربية، والمركز الذي ظل لعقود عِدَّة الأول في الوطن العربي.
تتحدث الأنباء عن استهداف مقر للصحفيين والإعلاميين في «حاصبيا»، ومقتل ثلاثة من صحفيي «قناة الميادين»؛ ما يشجع الفاشست الإسرائيلي على الإمعان في الهمجية والتوحش.
يشعر الصهاينة بالاستعلاء والتفوق، وأنهم فوق المساءلة؛ فهم حماة أمريكا وأوروبا والحضارة الغربية؛ لذا لا يلقون السمع للقرارات الدولية، ولا يُعِيرُون الرأي العام الدولي أيَّ اهتمام، ويستهزئون بالأمم المتحدة والجمعية العامة والمجتمع الدولي.
في العام 2006، وفي جريدة «الخليج» القطرية، العدد (9761) نشر الأستاذ صلاح الدين حافظ -الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب حينها- مقالاً بعنوان «انتهاك حرية الصحافة جريمة حرب»، يشير إلى تراجيدية الانتهاكات ضد حرية الصحافة خلال الأعوام 2000، و2005. وقد طالت الانتهاكات البلدان الديمقراطية، وعَابَ على الدول الديمقراطية مجاراة أو تأييد النظم الاستبدادية، وتبريرها القمع وقتل الصحفيين.
وتناول الانتهاكات في المنطقة العربية كلها، وبالأخص في العراق؛ حيث قُتِلَ أكثر من 79 صحفيًّا، سواء على يد قوات الاحتلال الأمريكية، أو الحكومة التابعة، أو المليشيات. وأشار إلى الانتهاكات في فلسطين بقتل الاحتلال الإسرائيلي 15 صحفيًّا، وجرح أكثر من 185، منذ بداية الانتفاضة الثانية في العام 2000.
كما أشار إلى أنَّ ما قتل في العراق، خلال عامين ونصف، يفوق ما قُتِلَ خلال حرب فيتنام لأكثر من عقدين.
وشدَّدَ على زيف وكذب ادعاء الديمقراطية في ظل ممارسة أمريكا أبشع أساليب القمع والإرهاب ضد الآخرين، بمن في ذلك الصحفيون.
وأتى على مقارنة ما حصل في الماضي، سواء في فيتنام، أو في الحربين العالميتين خلال بضعة أعوام، وما يجري حاليًا في غزة. فخلال عام واحد قُتِلَ أكثر من 176 صحفيًّا، وأُبيدت أسر صحفية بشكل مقصود ومتعمد، ومنع الصحفيون الأجانب من الدخول إلى غزة، وجرى قتل الصحفيين الفلسطينيين، ومراسلي الصحف والقنوات الفضائية ووكالات الأنباء.
يتناول الدكتور مصطفى المصمودي في كتابه «النظام الإعلامي الجديد»، دوافعَ الرفض عند بعض الناشرين الغربيين "لمبدأ حماية الصحفيين أثناء قيامهم بالمهام الخطيرة، ومعارضتهم وضع قواعد أخلاقية لِممارسة العمل الإعلامي على وجه سليم"(ص17).
وإذا ما رجعنا إلى القوانين الدولية حول حماية الصحفيين في زمن الحرب، فإنَّ القانون الدولي الإنساني من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف لحماية المدنيين في النزاعات العسكرية، ينص على أن "الصحفيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في مناطق النزاعات المسلحة، يجب احترامهم ومعاملتهم كمدنيين، وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد، شريطة ألا يقوموا بأعمال تخالف مهماتهم"؛ وهو ما تؤكد عليه دراسة «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» عن القواعد العُرفية للقانون الدولي الإنساني، في العام 2005، المادة (34)، الفصل العاشر.
وتثبيت الصياغة الواردة في القانون الدولي الإنساني، وتتكرر الإشارة إلى المادة نفسها.
وفي المادة (19) من العهد الأممي للحقوق المدنية والسياسية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1969 المادة (19). وتمثل المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المرجع الأساس.
المأساة أن العديد من قرارات الأمم المتحدة لا أثرَ لها في الواقع، ولا تجد سبيلها للتطبيق.
الدكتور صلاح الدين حافظ يتساءل بمرارة عن سر التراجع في الديمقراطيات الرأسمالية، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية؟
الفاجع أنَّ البلدان الرأسمالية تتراجع عن أهم المبادئ التي دعت إليها الثورة الرأسمالية: الاستنارة، وحرية الرأي والتعبير.
الماركسية كانت ناقدةً للطبيعة السياسية للديمقراطية الرأسمالية، ودعت إلى بديل لها (الديمقراطية الاجتماعية)، مشددةً على البعد الاقتصادي للديمقراطية.
المفكر الأمريكي الأشهر نعوم تشومسكي هو الأكثر انتقادًا وتزييفًا للديمقراطية الأمريكية في كثيرٍ من كتبه، وبالأخص في كتابه «إعاقة الديمقراطية».
في البلدان المُسْتَعْمَرة كان المستعمر الأوروبي يعطي هامشًا للحريات العامة، والديمقراطية، ومساحةً لحرية الرأي والتعبير، مع قدر من الاستنارة والتحديث لا تهدد الوجود الاستعماري.
الثورات القومية وحركات التحرر خلطت ما بين عداوة ومواجهة الاستعمار، وبين رفض الحداثة والاستنارة والديمقراطية.
وربما كانت الإدانة للديمقراطية السياسية هي الأقوى، أمَّا العداء للحريات العامة وللرأي والتعبير فمتجذر.
في كتابه «اختلال العالم» يشير السارد الشهير والمؤرخ المثقف الواسع الاطلاع أمين معلوف، إلى أنَّ الغرب حقق إنجازات حضارية ضخمة على كافة الأصعدة والمستويات طيلة القرون الثلاثة الماضية، في حين أننا نحن العرب لم نحقق شيئًا يُذكَر بعد انهيار حضارتنا الكلاسيكية. فنحن في أسفل الحضيض الآن.
ويعيب الكاتب اللبناني الشهير على العالم العربي الفقر المدقع لضميره الأخلاقي حاليًا، وأما ما يعيبه على الغرب فهو أنه يستخدم ضميره الأخلاقي كأداة للهيمنة على الآخرين.
نادرًا ما تجد الهم الأخلاقي أو الإشارة إلى القيم الإنسانية الكونية حاضرةً في الخطابات العربية المعاصرة. أما الخطاب الغربي فمليء بها، ولكنها مُستخدمة بشكل انتهازي وانتقائي؛ لتحقيق المصالح السياسية، أو المطامع الاقتصادية الشرهة التي لا تشبع.
ويقول معلوف: "نقول ذلك، ونحن نعلم أنه لا توجد حقوق إنسان بالنسبة إلى أوروبا، وحقوق إنسان بالنسبة إلى إفريقيا، أو أمريكا اللاتينية، أو العالم العربي... الخ. حقوق الإنسان واحدة، وينبغي أن تنطبق على الجميع.
الإنسان له كرامة، وينبغي أن تحترم في كل مكان، ولكن الغرب يقول لك: إنَّ الشعوب العربية أو الإسلامية غير ناضجة حضاريًّا؛ وبالتالي غير مهيأة لتقبلها أو لتبنيها. ولهذا السبب؛ فإنه يغض الطرف عن انتهاكها من قبل بعض الأنظمة، وخاصةً إذا كانت صديقة" (الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، هاشم صالح، ص336).
حرصت على إيراد النص الكبير نسبيًّا لأمين معلوف؛ ابن لبنان الدارس للتاريخ والحضارة والآداب العربية، والمهتم بالصراع بين العرب والحملات الصليبية، والمتمثل جيدًا للحضارة والفكر والسياسات الأوروبية؛ فهو شاهد صادق، ومفكر مستقل، وشهادته دلالتها عميقة وواقعية.
غرس إسرائيل في قلب الوطن كان جريمة وشاهد عنصرية الاستعمار الأوروبي وعداوته للأمة العربية، أما ما يجري اليوم في فلسطين ولبنان فحرب إبادة وجريمة في كل العصور.
أمريكا وأوروبا الاستعمارية لم تعد تغض النظر عن قمع أصدقائها لشعوبهم فحسب، وإنَّما أصبحت تشارك هذه النظم المستبدة في قمع الشعوب العربية، وتشترك مع الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي في حرب إبادة غزة، بل تقمع الاحتجاجات داخل بلدانها.