الصورة أدناه هي لمنزل كان عامرًا بساكنيه.
واليوم كما سترونه أصبح خرابة مهجورة، فقد غادره أهله، ونجزم القول إن جلهم قد رحلوا إلى جوار ربهم.
المنزل أدناه من بين جدرانه التي أمامكم وقد صارت أطلالًا تحكي لنا عن ماضٍ تليد.
ماضٍ كان صاحب هذا البيت أحد المبدعين، وممن قدموا عطاءات فنية تنوعت بين الشعر والتلحين.
وكان هذا الرجل الذي رحل عنا، أحد رواد الغناء، بل إنه السباق في ما عرف في تلك الفترة البعيدة وصار معروفًا حاليًا بالأغنية الديسية، أي نسبة للديس الشرقية وادي عمر بساحل حضرموت.
إنه الراحل الشاعر والملحن الكبير سعيد عبدالله يمين بايمين، طيب الله ثراه.
سعيد يمين ليس شاعرًا حديث عهد، بل إنه يعد من أوائل شعراء وملحني حضرموت، ولكن من خلال قربنا الجغرافي عرفناه من خلال نتاجاته التي ظهرت من هذه المدنية، أي الديس الشرقية التي ولدت شعراء وملحنين كبارًا.
للأمانة المهنية والأخلاقية، فسعيد يمين يعتبر رائد الأغنية الديسية، وهو دون غيره من نقل هذه الأغنية من نطاقها المحلي الضيق إلى أماكن بعيدة ومساحات شاسعة، حتى جعل يتغنى بكلماته وألحانه كبار الفنانين، ولنا في ذلك الفنان الكبير الراحل أبو بكر سالم بلفقيه، في رائعة سعيد يمين الشهيرة "لان من بعد ما ذوب فوادي بحبه لان قلب القسي لان".
تألمت كثيرًا وأنا أشاهد حال هذا المنزل وما آل إليه حتى أصبح خاويًا بعدما كان مقصدًا ومرتعًا للفنانين من أبناء وادي عمر ومن خارجها، فالكثير من هؤلاء كانت بداياتهم الفنية من هذا المنزل.
وراح بي الخيال إلى أبعد الحدود، إذ إني تخيلت الولادات الأولى لكثير من روائع هذا الشاعر الفذ، التي خرجت للناس من هنا، من بين هذه الجدران التي كانت متماسكة وذات صلابة ومتانة في ما مضى من وقت.
تخيلت هذه الأغنية المحببة إلى نفسي كثيرًا، والتي أتت من هذا المنزل، والتي يقول سعيد يمين في مطلعها الشعري الجميل:
"جميلي زرعته حاسبنه مع الأيام يلقي ثمر
سدى ضاع كله في رمال الخلا ما بان منه أثر
ونا لي على الواجب دائم مثابر
بالوفاء والتمام
من تنكر لاحبابه لا بد له من يوم تجزيه الأيام"
فنسمع البيت القادم الذي يقطر جمالًا وحلاوة، والذي من خلاله يصف الشاعر ما حل به من صنوف عذاب العشق المحبب للنفس هو الآخر لمن عايشه بحلوه ومره:
"رموني بلا حجة ولحد يخلي صاحبه في خطر
ونسيوا زمان الأنس ولعاد جاني منهم شي خبر
ولا حد سوى المحبوب بالحال خابر
إنني مستهام
من تنكر لاحبابه لا بد له من يوم تجزيه الأيام"
فنستمر في المتابعة مادامت قطرات الرحيق اليميني مستمرة بعذوبتها:
"لاحباب قلبي كما قلت ضاق الحال قالوا صبر
ونا من أجلهم قاسي وعاني هموم الهوى في بحر ما فيه بر
وعهد المحبة مثلما كان سابق
والوفاء للكرام
من تنكر لاحبابه لا بد له من يوم تجزيه الأيام"
سعيد يمين، وأنا أستمع للمقطع الآتي، أشفق عليك وأرثى لك، بل إني أشفق وأرثى لحال كل من تولع بحب الحسان المليحات، ولاقى الصد تارة والهجران تارة أخرى:
"لوحدي أبات الليل سهران لما ذاب جفني السهر
وجسمي نحل مما قاسي وعاني ودموعي مثيل المطر
صبر يا فؤادي شوف من كان صابر
نال كل المرام
من تنكر لاحبابه لا بد له من يوم تجزيه الأيام"
أي إبداع تمتلكه أيها الراحل سعيد يمين!
فكلما تعمقت أكثر ليس في إبداعاتك الكثيرة، بل في ثنايا هذه القصيدة دون غيرها من القصائد الكثيرة لك، وهنا يتبين لي ولكل من اقترب من أشعارك، أنك تمتلك الكم الهائل والمتنوع لكل الإبداعات، ولكن تظل موهبتك الشعرية الفريدة هي الأروع والأجمل.
وبما أنك رحلت عنا من فتره بعيدة، وظل منزلك ومأواك ومأوى كل عشاق الفن، يقاوم عاتيات الزمن، إلا أنه في الأخير يبدو أنه كمن يعلن الاستسلام، واليوم كما صار أمام ناظرينا يلتحق بك رويدًا رويدًا، فلم يتبقَّ منه إلا القليل حتى يصبح في خبر كان.
لكن هذه الدرر الثمينة المتمثلة بهذه الروائع الغنائية التي تركتها لنا، ستبقى خالدة وحية في حواسنا كعشاق ومحبين للشعر واللحن الجميل.
وستبقى وستظل دعواتنا متواصلة لك بالرحمة والمغفرة.