هناك تيارات عديدة في المنطقة ترى أن الخطوة الأولى نحو الاستقرار والسلام تبدأ بالاعتراف بالواقع، سواء من خلال الإقرار بضعفنا أمام تفوق خصومنا، أو عبر التطبيع كوسيلة وحيدة لإحلال السلام واستعادة الحقوق. هؤلاء يرون أيضًا أن التنازل عن بعض المبادئ أو القيم الثقافية قد يكون ضرورة لتجنب المزيد من الصراعات، والعيش بسلام.
في المقابل، هناك من يعتقد أن الحل الحقيقي يكمن في تغيير جذري للبنية الفكرية والثقافية في المنطقة، عبر تبني العلمانية أو الإلحاد وإقصاء الدين من الحياة العامة والسياسية. هؤلاء يرون أن المنظومات الدينية، بما تحمله من تشدد وانغلاق، تمثل عائقًا أمام التنمية وبناء دول ديمقراطية حديثة. ومن هذا المنطلق، يطرحون أن مواجهة الدين وإلغاء تأثيره في الحياة العامة هو السبيل الوحيد لتحقيق النهضة الشاملة.
لكن، في الحقيقة، ما يغفله كلا الفريقين هو أن الخصم الذي نتحدث عنه غير معنيّ بأي من هذه النقاشات أو الحلول. فهو لا يهتم باعترافنا بضعفنا أو بما إذا كنّا نختار العلمانية أو الإلحاد أم التطبيع، لأن مشروعه يتجاوز هذا الجدل بكثير. الخصم يسعى لتنفيذ مشروع قومي بعيد المدى يعتمد على رؤية اقتصادية وجيوسياسية شاملة.
عندما نتحدث عن مشروع قومي للخصم، يجب أن نفهم أن المسألة لا تتعلق بالمقولات والشعارات التقليدية مثل: "من النيل إلى الفرات". فهذه السرديّة، رغم شعبيتها في الخطاب الديني والقومي، لا تعبر عن جوهر المشروع الحقيقي. في الواقع، الطموحات الاقتصادية والجيوسياسية للخصم تتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة والواسعة معًا، وتقوم على استغلال الموارد والتوسع الاقتصادي بطرق لا ترتبط بالضرورة بالجغرافيا وحدها، بل بالبنية الاقتصادية والتكنولوجية العالمية.
ذلك التفكير النمطي الجشع المحصور في رؤية الدولة مجرد أرض واسعة المساحة، يجب ألّا ينسينا أنّ الطموحات الاقتصادية قد تتجاوز الجغرافيا وتلغيها تمامًا. على سبيل المثال، أصغر دولة عربية من حيث المساحة تفوق في حجمها ثلاث دول أوروبية مجتمعة. ومع ذلك، أصغر دولة أوروبية مساحةً يتجاوز ناتجها القومي ثلاث دول عربية مجتمعة. خذوا هولندا كمثال؛ فمساحتها أصغر من مساحة محافظة حضرموت اليمنية، ومع ذلك، فإن الناتج الاقتصادي لهولندا من المنتجات الزراعية مثل الورود والألبان والأجبان، يتفوق على الناتج القومي لأربع دول عربية مجتمعة.
هذا الاختلاف الكبير بين الحجم الجغرافي والقدرة الاقتصادية، يعكس الفجوة الحقيقية التي يجب أن نركز عليها. الفجوة ليست في الموارد أو المساحة فقط، بل في كيفية استغلال الموارد وبناء اقتصاد قوي. في النهاية، علينا أن نعيد النظر في أساليبنا ونهجنا بعيدًا عن الشعارات أو الأيديولوجيات، ونركز على بناء قدراتنا الذاتية لمواجهة تلك المشاريع القومية التي قد تبدو غير مرئية، لكنها فاعلة بقوة في الساحة العالمية.