صنعاء 19C امطار خفيفة

بين اليمنية القديمة والفصحى

لما كتبت مقالي المنشور في موقع «النداء»، «لهجات يمنية وافقت الفصحى»، وأرسلته لأخي العزيز الأستاذ الشاعر الكبير أحمد المساح، فقام بدوره بالتعليق على المقال برسالة مملوءة بالمزح والدعابة، وتساءل عما كنت أعنيه بقولي موافقة اللهجة اليمنية للفصحى؟! معقّبًا بقوله: أليس الأصل أن تكون هذه اللهجات مأخوذة من الفصحى، وأنها متأثرة بها؟!

 
والحق أني حين كتبت العنوان كنت على وعي بالفروق بين لغة شمال الجزيرة عن جنوبها، ولم يكن اختياري لهذا العنوان عرضيًا أو تحكمًا؛ وذلك لما علق بذهني من عبارة عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا".
 
وهذه العبارة أحد شاهدين اتكأ عليهما الأديب الكبير الدكتور طه حسين في كتابه «الشعر الجاهلي»؛ فنفى أن يكون لليمن شعراء، بل تجاوز إلى أن الشعر المنسوب لامرئ القيس منحول، وأنَّ وضاح اليمن لم يكن إلا شخصية وهمية، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، فقال إن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- شخصيات لا وجود لها تاريخي!
والشاهد الثاني: أنَّ البحث الحديث أثبت خلافًا جوهريًّا بين اللغة التي كان يصطعنها الناس في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمالها.
 
ثم أشار إلى النقوش الحميرية التي اكتشفت، وإلى ما أورده جويدي في كتابه «المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية القديمة».
 
ولست أنكر أن كلام الأخ أحمد أثر في نفسي بسبب المسار الطبيعي لتأثر عربية الجنوب بعربية الشمال بعد انتشار الإسلام، وفاتني أن أنتبه إلى أن الفترة السابقة على الإسلام كان نفوذ اليمن السياسي على الحجاز ونجد هو السائد والمهيمن.
 
وكان أثر هذا التأثير من الأستاذ أحمد، أني كتبت مقالي الثاني في «النداء» بعنوان «كلمات وخواطر في المحكية اليمنية وأصولها في الفصحى».
 
وبينما كنت أتصفح في كتاب «العلماء العرب المعاصرون»، للأستاذ أحمد العلاونة، وجدته ترجم للأستاذ هاشم الطعان، ص242. فأقبلت على قراءة الترجمة؛ لأني طالما سمعت من الوالد الأستاذ عبدالباري طاهر، الثناء على تحقيقه ومقدمته على «ديوان عمرو بن معد يكرب الزبيدي».
 
وقد تناول الوالد «ديوان عمرو بن معد يكرب» بدراسة قيمة في كتابه «اليمن الإرث وأفق الحرية».
 
يذكر الأستاذ العلاونة الطعان فيقول: إنه ولد بالموصل عام (1350-1402هـ/ 1931-1981م).
وتخرج من كلية الآداب بجامعة بغداد، واشتغل بالتدريس في المدارس الثانوية، ثم نال الدكتوراه من جامعة بغداد، واشتغل بالتدريس في المدارس الثانوية.
ويذكر عنه أنه كان مُقلًا من التأليف والتحقيق مع تجويد فيهما.
أما مؤلفاته فهي:
1. تأثر العربية باللغات اليمنية القديمة.
2. الأدب العربي بين لهجات القبائل واللغة الموحدة.
3. لحظات قلقلة (كذا وردت! ولعل الصواب قلقة. فيراجع).
4. غدًا نحصد، ديوان شعر.
تحقيقاته:
1. حقق كتاب البارع، لأبي علي القالي.
2. تحقيق ديوان الحارث بن حلزة.
3. تحقيق ديوان عمرو بن معد يكرب.
وذكر العلاونة أنه جمع مكتبةً نفيسة في مختلف الفنون، وفيها كتب من عيون التراث باعها الورثة إلى جامعة الكوفة بثمن بخس.
أما الشاهد من مؤلفاته، فهو كتابه المهم «تأثر العربية باللغات اليمنية القديمة». وهذا ما تقتضيه طبائع الحياة وحقائق التاريخ؛ فإن النفوذ السياسي لليمن أيام حضاراتها المتعاقبة، كان يمتد حتى الحجاز ونجد، وقد تكونت هناك ممالك يمنية في شمال الجزيرة ككندة، وفي الشام والعراق كممالك غسان والمناذرة، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام.
الأمر الثاني: هو أني أثناء قراءتي لكتاب الثعالبي «فقه اللغة»، وجدته ذكر أنَّ العنب الأسود يقال له «وين».
وفي مجلس مقيل مع الصهر العزيز أحمد الريمي، حدثني عن مقابلة مع عالمة الآثار الدكتورة عميدة شعلان، وقام بإرسالها لي، تذكر أنَّ «الوين» لفظة وردت في النقوش اليمنية القديمة، بمعنى العنب.
ومنه أخذت الإنجليزية هذه التسمية اسمًا للنبيذ المصنوع منه (Wine).
ثم أرسل لي مقالين «العنب في الحضارات اليمنية القديمة»، للأستاذ عادل رسام. ذكر فيه أن مفردة «وين» مع مفردة «مزر» التي تعني الخمر، وردتا في السطر الثالث عشر من «قصيدة الشمس»:
"وين مزر كن كشقحك". أي أن الكرم صار خمرًا حين سطعت.
وهنا لا بد لنا من وقفة مع مفردة «كشقحك» التي وردت في ترجمة الأستاذ عادل، والتي يظهر من السياق أنها بمعنى «سطعت»؛ فهي شبيهة وقريبة، إن لم نقل هي نفسها إذا ما حذفنا الكاف من أول المفردة وآخرها، هي نفسها مفردة «شقحة» التهامية؛ والتي تعني أيضًا الضوء.
تقول: أتانا (جاءنا) وقت امشقحة. أي في الوقت يكون فيه القمر بدرًا مستطيرًا ضوؤه.
ويقول التهامي أيضًا: ليلة شقَّاحي، لليلة المقمرة التي يكتمل فيها البدر، ويستتم نوره.
ويقولون: فلان وجهه مشقحو؛ أي أنه يتلألأ من البياض أو النعمة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً