في "البقاء على قيد الوطن" للشاعر الفلسطيني الراحل أحمد يعقوب، نواجه النص الشعري كجسدٍ يتنفس داخل جغرافيا الجرح، حيث الوطن لا يُكتب كحلمٍ أو كنقطةٍ في الذاكرة، بل كجسدٍ حيٍّ ينغرس في الدم، ويمتزج بالنفس ليصبح هو الحياة نفسها. الشعر هنا هو الفن الذي يحمل كيان الشاعر وهو يحاول النجاة في ظل وطنٍ ممزق، مجزأ، لكنه لا يزال يحيا في خيال الشعراء، وكأنه كائن أسطوري.
الوطن كوجود ميتافيزيقي
في هذه المجموعة، يتجلى الوطن كحالةٍ ميتافيزيقية، حيث لا يُقرأ الوطن كأرضٍ محددة المعالم، بل كفكرة تتداخل مع مفهوم البقاء ذاته. أحمد يعقوب يعيد تشكيل الوعي حول فكرة الوطن، عبر تحويله من حالة ثابتة إلى حالة دائمة التحول والتشكل. يقول: "البقاء على قيد الوطن.. إكليل من خشب الصندل.. قلادة من الشوك البري". هنا، نجد الشاعر يبني عالماً رمزياً، حيث يتمازج العطر مع الشوك، والجمال مع الألم، ليصبح الوطن ذاكرةً حيةً تحمل في طياتها النقيضين: الحب والعذاب.
ثنائية الحياة والموت
الموت في شعر يعقوب ليس نهاية، بل هو جزء من دورة مستمرة، تكتمل فيها الحياة داخل الجرح الفلسطيني. الموت هنا يتقاطع مع الأسطورة والتاريخ، فهو ليس موتاً فعلياً، بل انبعاثٌ جديد. يتساءل الشاعر: "هل للرصاص أن يدمغ وقتنا بشمع الرماد؟"، في هذه اللحظة، يصبح الرصاص أكثر من أداة للقتل، إنه الزمن ذاته الذي يفرض وجوده عبر الدم. لكن الزمن، كما يصوره يعقوب، هو دائماً مفتوحٌ على احتمالات أخرى، تتجاوز الفناء إلى الخلود. فالقصيدة تنبض بالحياة حتى في حضرة الموت.
الموت ليس فقط فردياً؛ بل هو جماعي، موت الوطن هو جزء من موت الفرد، وفي هذا السياق، تتمازج صورة الوطن مع الرموز الدينية والتاريخية، حيث نجد الإشارات المتكررة ليسوع المسيح وكلكامش وأنكيدو. هنا، تصبح القصيدة مكاناً مقدساً للحوار مع الرموز الكبرى للإنسانية، التي تجسد في وجودها صراعاً دائماً مع الموت لأجل الحياة.
الشعر كلغة مقاومة
شعر أحمد يعقوب في "البقاء على قيد الوطن" هو في حد ذاته فعل مقاومة، ليس فقط مقاومة مادية ضد الاحتلال، بل مقاومة ضد الفناء والنسيان. الشعر هو الأداة التي يعيد من خلالها الشاعر صياغة وجوده كفلسطيني، وكإنسان يتحدى القوى التي تسعى لمحوه. يقول: "اغتسلي بلادي، خبأت لك عطر المرّ". هنا، الوطن هو العطر المخفي الذي يحتفظ بجماله رغم الألم، والشعر هو الذي يكشف هذا الجمال ويعيده إلى الوجود.
الشاعر يحفر في تربة التاريخ والأسطورة، ليرسم لنا صورة الوطن ككائن أسطوري، ينهض من الرصاص كما ينهض طائر الفينيق من الرماد. إنه يكتب ليستعيد الوطن ليس فقط كمكان، بل كفكرةٍ حيّة تزرع نفسها في النفس، كقصيدةٍ لا تنتهي.
اللغة: غنائية الأسطورة
لغة يعقوب في هذه المجموعة تحمل طابعاً غنائياً، تتداخل فيه الصور الشعرية لتخلق عالماً مشبعاً بالرموز والأساطير. في قصائده، تصبح الكلمات مرايا تعكس ألوان الألم والأمل معاً. نجد تكراراً للإيقاع الثقيل في عبارات مثل: "دَم.. دُمْ.. دَمْ.. دُمْ". هذا الإيقاع يمثل، في عمقه، نبض الوطن الذي يضخ الحياة عبر جسد الشاعر.
الأسلوب الغنائي يتداخل مع الأسطورة، حيث تصبح القصيدة فضاءً للتأمل في الأسئلة الوجودية الكبرى. تساؤلات يعقوب حول الموت والحياة ليست فقط تساؤلات فردية، بل هي تأملات في معنى الوجود الفلسطيني، حيث الهوية الوطنية لا تتشكل فقط من خلال الجغرافيا، بل من خلال التجربة التاريخية والروح الجماعية.
الاغتراب والهوية
في "البقاء على قيد الوطن"، يطرح يعقوب مسألة الاغتراب كحالة دائمة للفلسطيني. المنفى لا يُقرأ فقط كنقطة في المكان، بل كحالة نفسية يعيشها الشاعر في كل لحظة. لكنه لا يغرق في الاغتراب، بل يتجاوزه إلى حالة من الاندماج مع الأرض عبر الشعر. يقول: "قبلما أختار بين الحرية والمكان، ليكون الزمان بلادي". هنا، نجد تحولاً من المنفى إلى الزمن، حيث يصبح الزمن هو الوطن البديل، الذي يحمل في داخله الذاكرة والحنين.
الشعر كفعل حرية
أكثر ما يميز هذه المجموعة هو أن الشعر يصبح نفسه فعل الحرية الأسمى. أحمد يعقوب لا يكتب فقط عن الحرية، بل يعيشها عبر الكتابة. الشعر هو الوسيلة التي يتجاوز بها الشاعر الحدود التي فرضها الاحتلال والمنفى، ليعيد بناء وطنه الخاص، وطنٍ من الكلمات والرموز. "الشعر جميل، والحرية فتنة الجمال". في هذه العبارة نلمس عمق العلاقة بين الشعر والحرية، حيث يصبح الشعر جمالاً حراً يتحدى كل القيود.
الخلاصة: الوطن كقصيدة أبدية
مجموعة "البقاء على قيد الوطن" هي أكثر من مجرد مجموعة شعرية، إنها قصيدة أبدية عن الوطن، تُكتب وتُعاد كتابتها في كل لحظة. الوطن في شعر أحمد يعقوب هو فكرة تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ، لتصبح رمزاً للوجود الإنساني في أعمق معانيه. يعقوب يعيد تشكيل الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، ويقدم لنا نصاً شعرياً ينبض بالحياة رغم الموت، ويستمر في العطاء رغم الرحيل.
*شاعر فلسطيني