رأيت في هذه الحرب أدنى ما في الإنسان وأعظم ما يمكن أن يكون عليه. رأيت أبشع صور العنف والقسوة والظلم، بما يفوق مخيلتنا، شراهة الإنسان للدماء، وجبروته في القهر، وكذبه ودناءته، وأنانيته وطمعه اللذين لا يعرفان حدودًا. رأيت الذل والهوان والانصياع الذي يخنق النفوس. لكن في الجهة المقابلة، رأيت الإنسان في أعظم تجلياته، يتجسد أمامنا كأسطورة: حفنة من المقاومين، بأدنى المقومات العسكرية، وبدون دعم دولي أو إقليمي يُذكر، يقفون في وجه أقوى قوة عسكرية واقتصادية في عالمنا، للدفاع عن قضيتهم العادلة. إذا استحضرنا صورة داود أمام جالوت، فالمقاومة الفلسطينية تصبح داود المقاوم بحجر الأرض.
رأيت في فلسطين أساطير تُكتب أمام أعيننا. كنا نعتقد أن الأساطير لم يعد لها مكان في هذا الزمن، لكن هذه المقاومة البسيطة والعنيدة أثبتت العكس. في مواجهة قوة يدرك المقاومون أنهم لن يهزموها بالسلاح وحده، خاضوا الحرب ليس من أجل أيديولوجيا زائفة أو مطامع دنيوية زائلة، بل من أجل كرامتهم وحريتهم، وهما أسمى ما يمكن أن يناضل الإنسان لأجلهما. لقد أعادوا لنا معنى أن نكون بشرًا، في عالم سحق فيه النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي أي معنى للكرامة الإنسانية.
رأيت في هذه الحرب أن المقاومين لم يكونوا فقط من حملوا السلاح، أو من كانوا على الخطوط الأمامية يواجهون المحتل بشجاعة ودون خوف، كأمثال السنوار. المقاومة لم تقتصر على هؤلاء، بل كانت أيضًا الصحفيين الذين واصلوا نقل الحقيقة علمًا أنهم أهداف مباشرة للقصف، والأطباء الذين بقوا إلى جانب مرضاهم رغم علمهم أن المستشفيات نفسها ليست بمأمن من القصف. رأيت المقاومة في الجدات وكل من أصر على البقاء على الأرض رغم أن العدو عازم على حرقها بمن عليها. ورأيت صديقي الشاعر في غزة، يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلًا، وهو يزرع الريحان، وذاكرته، في أرضه المقدسة. المقاومة ليست مجرد فعل مسلح، بل هي ارتباط وثيق بالأرض، بالحياة، وبالكرامة التي لا يمكن التنازل عنها.
في هذه البقعة من الأرض، لم يكن هناك قادة مزيّنون بالكلمات الرنانة والخطابات الجوفاء، كغيرهم في المنطقة. بل، رأينا كيف يمكن لأرض مثل فلسطين أن تخلق قائدًا صلبًا وعنيدًا في كل فرد فيها.
نعم، شعرنا بالعجز في هذه الحرب، لكن قد نجد فيها مخزونًا لقوة معنوية هائلة لمواصلة الطريق، غير مكترثين باحتمالات النجاح. والنجاح هنا نسبي. فالبعض يقيسه بالبقاء على قيد الحياة في ظل فقر وحصار، واعتماد على بقايا "المعونات" الغربية، في مدن وقرى بات الاقتتال والحروب فيها أمرًا اعتياديًا، وهناك من يقيسه بكرامة الإنسان وحرية إرادته. الفرق بين هذين المفهومين شاسع، ولا يمكن أن يلتقيا.