صنعاء 19C امطار خفيفة

رحل عمي "يحيى" ولم يمت الضوء

رحل عمي "يحيى" ولم يمت الضوء
يحيى علي الحريبي منصات التواصل
 
مقال عن فقداني لعمي الدكتور يحيى علي الحريبي
 

منذ أكثر من أربعين سنة، وفي أحد أحياء صنعاء، وتحديدًا في شارع الزبيري، كنت مع بقية الأطفال نلعب، وفجأة وبحسب الرواية، فقد وقعت من عالٍ وغبت عن الوعي. كان عمي "يحيى" حينها قد عاد لتوه من ألمانيا، بعد أن أكمل دراسة الاختصاص في التخدير والعناية المُركّزّة. كان، على حد علمي، أول يمني يعود بهكذا اختصاص إلى صنعاء في تلك الحقبة.

 

 قام عمي "يحيى" بفحصي، فلم يجد قلبًا ينبض أو صدرًا يتنفس، فقام سريعًا بعمل إنعاش قلبي ورئوي، وأعاد لقلبي الحياة. لهذا، فأنا أدين لعمي "يحيى" بحياتي منذ تلك اللحظة وإلى أن ألحق به وبمن رحلوا. الكثيرون مثلي مد لهم يد الحياة، وأعادهم من قبضة الموت.

 
كانت علاقة والدي الراحل، الدكتور عبدالله علي الحريبي، بأخيه الأصغر، بها الكثير من الخصوصية والتفرّد، ولها تجلّيات عدّة. ففي أحد جوانبها تجد لمحةً من علاقة أبوية، ومن وجه آخر تجد علاقة الجرّاح بطبيب التخدير والآلاف من العمليات الجراحية التي اشتركا فيها معًا. وهناك كذلك علاقة المريض بطبيبه، كون عمي "يحيى" قد اعتنى بوالدي ورافقه في رحلات علاجية عدّة، وفي عدد منها شارف والدي على الموت، وفي كل مرة يخطئه الموت، كان ينهض ليجد عمي "يحيى" في انتظاره على الضفة الأخرى. كان والدي يثق فيه كثيرًا ويطمئن لوجوده. كانت من أسعد اللحظات عندي عندما يزورنا، وكان يحب كثيرًا أكل "الزوم"، الذي تُجيد عمله والدتي، أطال الله في عمرها. في هذه الزيارات كنت أستمتع بالإنصات لوالدي وعمي "يحيى" وهما يتبادلان "القفشات" المضحكة، فقد كان لدى كل منهما سرعة بديهة وروح دعابة آسرة. قام عمي "يحيى" مؤخرًا بإطلاعي على مراسلات قديمة بينه وبين والدي تعود للستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. هذه الرسائل تجسد بعدًا آخر في علاقتهما. قال والدي في واحدة من تلك الرسائل، وكان حينها في بريطانيا، بأنه يعمل 120 ساعة في الأسبوع، ومع ذلك سيكون سعيدًا لو قام عمي "يحيى" بزيارته لقضاء إجازة قصيرة.
 
كنت أتبادل مع عمي "يحيى" الحديث يومًا، وكنت شغوفًا بكلامه وسرده. حكى أنه كان يرعى مريضًا في مستشفى الثورة بصنعاء، وكانت حالته حرجة. كان ذلك المريض سيموت لضعف الإمكانات وعدم توفر العلاج في اليمن. وبنفس الوقت كان نقله إلى خارج البلاد محفوفًا بالمخاطر، كون حالته لم تكن مستقرة. قام عمي "يحيى" بنقله ومرافقته إلى فرانكفورت في رحلة لعدة ساعات، ونجح في أن يبقيه على قيد الحياة وتسليمه للفريق الطبي الألماني. قام كبير الأطباء الألمان بجمع أعضاء فريقه وقال لهم وهو يشير لعمي "يحيى": قام هذا الطبيب اليمني بنقل هذه الحالة الحرجة من صنعاء، وأبقى المريض على قيد الحياة بالأدوية الوريدية وبالتنفس اليدوي طوال الرحلة من صنعاء لفرانكفورت. ما قام به هو معجزة وبأقل الإمكانات". كان عمي "يحيى" يحدثني وعيناه دامعتان. وحتى اللحظة لا أدري هل كانت عيناه تدمعان بسبب الفخر بذلك المنجز، أم حسرةً على الضياع في بلاد الضياع.
 
على الرغم من خدمة عمي يحيى الممتدة لعقود، وما حققه سواء في مستشفى الثورة، أو في الجامعة، أو في المجلس الطبي، إلا أنه لم ينل أبدًا ما يستحق من الاعتراف، ولكني أقول له مثلما قلت لوالدي عندما رحل منذ أكثر من عشرين عامًا: يكفيك ما تركت من أثرٍ، ويكفيك أنك من فئة البشر الذين لا يرجون شكرًا ولا عرفانًا، ولا يقيّمون إنسانيتهم بمدى اعتراف الآخرين وشكرهم. وعلى الرغم من تتابع الحكّام وتغير أنواعهم وأجناسهم وفصائلهم، إلا أنهم يتفقون على شيء واحد، وهو كُره الأخيار من البشر ومحاولة طمرهم وتهميشهم. لا أعتقد بأن حياة عمي "يحيى"، ومن قبله حياة والدي، قد ذوت وتلاشت في اللاشيء. فما صنعاه يكفل لهما العيش الأبدي. مع كل فقدان مثل هذا، أشعر بأن سببًا آخر للعودة للبلاد قد مات، وربما يكون رحيل عمي "يحيى" من آخر هذه الأسباب. ولكنني، مع ذلك، ربما أعود يومًا لملامسة شاهدة قبره.
 
سأبقى دائمًا أزور مراسلاتنا في "واتساب" بين الفينة والأخرى، لأحدث عمي "يحيى"، ونتجاذب أطراف الحديث! سأواظب على ذلك حتى أطلب منه المسامحة على تقصيري في المواظبة على الحديث معه قبل أن يرحل. واحسرتاه على الفرص التي نضيعها في التواصل مع من نحب، لنُفاجأ بأنهم قد رحلوا على عجلٍ.
 
سيظل عمي "يحيى" أبدًا قاطنًا في وجداني ومقيمًا في ركن مضيء في الروح. رحل عمي "يحيى" ولم يمت الضوء.
 
*استشاري جراحة -إنجلترا
 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً