صنعاء 19C امطار خفيفة

وداعًا أبي الحبيب

وداعًا أبي الحبيب
مقبل سعيد الأغبري
 

بخطى متثاقلة أخذتني قدماي صباح يوم السبت،21 سبتمبر 2024، إلى حيث كان أبي ممددًا، كانت أنفاسه متسارعة لايزال صداها حتى الآن يدور في أذني.

 
لم يكن في المنزل غيري وأمي وأختي، حاولنا أن نجعله يفيق، ولكن باءت كل محاولاتنا بالفشل. وعلى الرغم من ذلك أصررنا على الاستمرار، ناديته بصوت مخنوق: "أبه حبيبي قوم.. يا حبيبي قوم"، ولكنه لم يكن يستجيب لي، قبضت على يده بكلتا يديّ، لمست قدميه، ولكنه لم يشعر بأي شيء.. تركت أمي وأختي معه، وهرولت مسرعة إلى الغرفة الأخرى، حيث يوجد هاتفي، ومن هناك اتصلت بأخي الذي كان في مقر عمله بالمستشفى. كاد قلبي أن يتوقف من شدة الخوف عندما لم يرد، ولكنه أخيرًا رد، حاولت أن أكون متماسكة، وأخبره بهدوء بضرورة أن يأتي إلى البيت، وعندما اشتد خوفه أخبرته بأن أبي يتنفس بطريقة غريبة، ولا يستجيب لنا، جاء أخي مسرعًا بسيارة إسعاف، كان صوتها يملأ الحارة، ويفاقم من نسبة الخوف داخلنا. داخل بطانية حمل أخي وشخص آخر أبي، مروا من أمامنا، ومن هول الصدمة لم أسقط حتى دمعة واحدة، ولا أختي أروى.. وحدها أمي التي كانت تبكي وتبكي بحرقة لدرجة شعرت بأن أبي لن يعود بعد اليوم.
 
ذهبت سيارة الإسعاف مسرعة إلى المستشفى، وسيطر الخوف والقلق علينا.. لحظات واتصل أخي وأخبرنا بأن والدي نقل إلى العناية المركزة، وحالته خطرة.. هنا اسودت الدنيا في عيوننا، أختي أروى كانت تجلس في زاوية الغرفة تدعو لأبي بأن ينجو، وهو الحال بالنسبة لأمي.
 
عاد أخي إلى المنزل، ومرت ثماني ساعات، ولايزال أبي في غيبوبته، في المساء ذهبت أنا وأخي زياد إلى المستشفى، ودخلنا غرفة العناية حيث يوجد أبي، كان منظره يوجع القلب وهو ممدد على السرير دون حراك، وأنبوبة الأكسجين في فمه، وكل الأجهزة موصلة فوق جسده، وصوت ذاك الجهاز يرعبني حد الموت.
 
التفتّ إلى طبيب العناية، سألته والدموع تنهمر دون توقف من عيني: هل سينجو أبي؟ فرد عليّ بأن نسبة الخطورة ١٠٠%، حاولت أن أهرب من هذه الحقيقة، وسألته مرة أخرى: هل هناك أمل في نجاته؟ فرد: إذا نجا ستكون معجزة!
خرجت مع أخي وأنا شبه منهارة أبكي دون توقف، وبجواري أخي زياد يكتم دموعه أمامي يحاول تهدئتي، وهو الذي كان أشد انهيارًا مني، منذ أخذ أبي إلى المستشفى.
 
خرجنا من مبنى المستشفى، تاركين خلفنا أبي أمانة بين يدي الله والأطباء، وعدنا إلى البيت بسبب صعوبة البقاء في المستشفى.
عند الوصول إلى البيت، حاولت أن أتماسك، طرقت باب شقتنا، ودخلت، كانت أمي وأختي ينظران إليّ بنظرة كلها تفاؤل، ينتظران مني خبرًا جميلًا، ولكني لم أستطع أن أقول لهما غير عبارة واحدة: "أبي في هذه اللحظات يحتاج إلى الدعاء".
 
مرت ١٦ ساعة، وبدأت بعدها تتوقف الوظائف في جسد أبي النحيل، رويدًا رويدًا، حتى وصلنا اتصال أنه فارق الحياة في الساعة الثانية من يوم الأحد، ٢٢سبتمبر٢٠٢٤، اسودت الدنيا في عيوننا، وبدأت مرحلة البكاء الذي حرق فؤادي، لم أصدق ما حدث. ففي أقل من ٢٤ ساعة عشنا أسوأ كابوس في حياتنا، فأبي لن أراه بعد اليوم، ولن أسمع صوته، أبي الذي مات ولا يوجد في جيبه غير ثلاثة آلاف ريال يمني، أصبح البيت دونه باردًا، والفراغ يحاصرنا من كل جانب، حتى ذكرياته أصبحت تتعمد أن تعود بنا إلى الوراء، إلى تلك الأيام التي كنا نمرض فيها وهو يحملنا على ظهره ليذهب بنا إلى المستشفى، إلى وجعه عندما يرى أحدنا حزينًا، إلى أيام دراستي الأولى عندما كان يأخذ بيدي ويدخلني إلى بوابة المدرسة.. أتذكر تلك الحقيبة الأولى التي حصلت عليها منه، والمرسوم عليها شعار شركة الخطوط الجوية اليمنية، حيث كان يعمل أبي كمراسل.. أتذكر ذلك التسجيل الذي لايزال معنا وأبي يجري مقابلة معنا، ويضحك ويمزح.
 
يا الله كم هو موجع ألم الفراق، فهو يدمر أشياء جميلة فينا، ويزرع في دواخلنا شعور الوحشة التي تعبث بنا بين الحين والآخر.
رحيل الأب لا أمر منه في هذه الدنيا، ولكن الحمد لله على كل حال.
رحمة الله تغشاك يا أبي، وربنا يجعل الجنة مثواك.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً