صنعاء 19C امطار خفيفة

رحيل العم حزام مقبل: قنديلٌ أُطفئ في سماء التنوير اليمني

رحيل العم حزام مقبل: قنديلٌ أُطفئ في سماء التنوير اليمني
العم حزام مقبل أبو صلاح

فجر يوم الأربعاء، الخامس والعشرين من سبتمبر، رحل عن عالمنا العم حزام مقبل، الشهير بأبو صلاح، تاركا وراءه فراغا هائلا في قلوب كل من عرفه وفي المشهد الثقافي اليمني. كان قنديل شارع الزراعة في صنعاء، حارسا للمعرفة والنور من خلال مكتبته الشهيرة "مكتبة أبو صلاح"، التي طالما كانت ملاذا للباحثين عن الحقيقة، الفكر، والثقافة.

العم حزام مقبل لم يكن مجرد بائع للكتب والمجلات والصحف، بل كان رمزا لتلك الحقبة من الزمن التي كانت فيها الكلمة المكتوبة نافذة على العالم الأوسع. من مكتبة أبو صلاح في شارع الزراعة، اعتاد أن يكون مصدرا للصحف والمجلات اليمنية والعربية التي كان يوزعها بانتظام. في ظل ظروف صعبة، كان يمثل حلقة الوصل بين القراء وأخبار العالم، وكان يعزز التواصل بين الثقافات والفكر، في وقت كانت فيه هذه الأمور أكثر من مجرد كماليات، بل ضرورات لليقظة الاجتماعية والتقدم.

تعود بداية قصة أبو صلاح في عدن، المدينة التي كانت تحتضن في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حركة ثقافية لا نظير لها. حزام مقبل وشقيقه الأكبر، العم عبده مقبل، أسسا أولى خطواتهما في هذا المجال من خلال العمل في كشك صغير لبيع الكتب والمجلات في شوارع عدن. لكن في سبعينيات القرن الماضي، انتقل الشقيقان إلى شمال اليمن، لتبدأ مرحلة جديدة في نشر الثقافة والتنوير في مدينتي تعز وصنعاء.

في تعز، كانت مكتبة "الوعي الثوري" التي أسسها عبده مقبل في شارع 26 سبتمبر (الشهير بشارع الحب) مركزا لتجمع المثقفين والمفكرين، ومصدرا للمادة الفكرية والسياسية في فترة ما قبل الوحدة اليمنية. أما في صنعاء، فقد تولى حزام مقبل دورا مماثلا، حيث أصبحت مكتبته في شارع الزراعة مركزا للحراك الثقافي والفكري في العاصمة.

كان حزام مقبل يميز نفسه عن الآخرين بعلاقته الوثيقة مع رواد مكتبته. لم تكن مكتبة أبو صلاح مجرد مكان لشراء الكتب، بل كانت ملاذا للباحثين عن المعرفة وللأصدقاء الذين اعتادوا اللقاء تحت ظلال هذه الثقافة العميقة التي كان يبثها. لم يكن الرجل يقف عند حدود بيع الكتب والمجلات، بل كان يسهم في توجيه الفكر، وفي كثير من الأحيان كان يساعد الناس على اختيار ما يناسبهم من كتب وصحف.

بالنسبة للكثيرين، كان العم حزام مقبل شخصا يحمل هموم الفكر والثقافة على كتفيه. لم تكن المادة مهمة بقدر ما كان تلبية حاجات العقول المتعطشة للتعلم والتطور. فحتى في الأيام التي كانت فيها الديون تتراكم، كان يتعامل مع الزبائن برقي وحب، وكأنه يعلم أن ما يقدمه لهم أكثر من مجرد بضاعة، بل هو معرفة وقيمة لا تقدر بثمن.


دين في الروح وغياب لا يعوض

قبل مغادرتي صنعاء، تذكرت أن لدي دينا متبقيا لدى العم حزام، مبلغ تسعة آلاف وخمسمائة ريال عن صحف ومجلات كنت قد اشتريتها على مدار شهرين. كنت أملك في جيبي ستة آلاف ريال فقط. وعندما ذهبت إليه، مددت يدي بالمبلغ الذي أملك، وكان يسألني عن البقية، ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال. قلت له غدا و"غدا صار امس".. كيف لي أن أوفي هذا الدين بعد الآن؟ كيف يمكنني أن أفي بحق رجل كان يمثل قيمة أكبر من مجرد المال؟

إن غياب العم حزام مقبل هو غصة في الروح، ليس فقط بالنسبة لي ولكن لكل من عرفه وتعامل معه. هو رجل لم يكن مجرد بائع كتب بل كان رمزا للتنوير والثقافة في فترة من الزمن كانت فيها هذه القيم نادرة وثمينة.

إن الحديث عن العم حزام مقبل لا يمكن أن ينفصل عن دوره الرائد في نشر الوعي والثقافة في اليمن. هو وشقيقه عبده مقبل شكلا ركيزة أساسية في نشر الفكر والتنوير في أهم مدينتين في اليمن الشمالي قبل الوحدة، تعز وصنعاء. كانت هذه المدن تعيش حالة من التغييرات السياسية والاجتماعية العميقة، وكان للثقافة دور محوري في تشكيل وعي المجتمع. وقد كان للعم حزام وعبده دور محوري في هذه الحركة من خلال تزويد الناس بالكتب والمجلات والصحف التي كانت تُقرأ بشغف.

رغم أن نشاطهما في هذا المجال بدأ في عدن، إلا أن انتقالهما إلى الشمال في السبعينيات حمل معه مسؤولية أكبر. فتعز وصنعاء كانت بحاجة إلى من ينير الطريق أمام جيل من الشباب المتعطش للمعرفة والتقدم. لم يكن العم حزام مجرد بائع كتب، بل كان شريكا في صناعة الوعي الجمعي للمجتمع اليمني.

اليوم، ونحن نودع هذا الرجل العظيم، نجد أنفسنا أمام حقيقة مؤلمة: أن رحيله ليس مجرد فقدان لبائع كتب، بل هو فقدان لأحد أعمدة التنوير في اليمن. إن رحيل حزام مقبل يترك خلفه فراغا لا يمكن ملؤه، ومسؤولية كبيرة على عاتق كل من آمن بأهمية الكتاب والثقافة في بناء المجتمعات.


وداعا يا عم حزام، وداعا لقنديلٍ أضاء طريق المعرفة في زمنٍ كانت فيه الأنوار قليلة. وداعا لرجل حمل همّ التنوير والثقافة على كاهله لعقود. ستبقى ذكراك حية في قلوب كل من عرفك وتعامل معك، وستظل مكتبة أبو صلاح رمزا لمرحلة ذهبية في تاريخ اليمن الثقافي.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً