هل تساءل أحدكم عن جذور التمييز الاجتماعي والجغرافي في اليمن؟ لماذا يرى سكان منطقة جغرافية معيّنة أنفسهم أفضل من سكان منطقة أخرى؟ وما الأسباب التي أدت إلى الصراع الخفي والمعلن الذي تجلى في التباينات الاجتماعية والجغرافية؟ وكيف نشأت ظاهرة "تبادل الاستهزاء"، حيث يحتقر الأرحبي والخولاني الريمي، وينظر الحدائي والعنسي إلى الوصابي بنظرة دونية، رغم أنهم جميعًا ينتمون إلى الوحدة الإدارية نفسها، محافظة ذمار!
ما هي أسباب هذا التباين الواضح بين منطقة وأخرى في شمال الشمال، وبين شمال اليمن وجنوبه وغربه (اليمن الأسفل) على وجه التحديد؟ لماذا تبدو المناطق ذات الطبيعة الخصبة وسكانها البسطاء كأنها غنيمة لسكان الجبال؟ هل يعود ذلك إلى عوامل طبيعية، اقتصادية، تاريخية؟ أم أن ضعف البنية القَبَليّة لسكان المناطق الخصبة جعلهم عُرضة للاستهداف من قبل سكان الجبال؟ أم أنّ الخلل في البنيّة الاجتماعية والسياسية؟
غياب دولة قوية
أعتقد أن السبب يعود إلى الصراع الاجتماعي الداخلي الممتد عبر الزمن والمكان، بخاصة في ظل غياب دولة مركزية قوية، مما مكّن القبائل الجائعة في الجبال من الزحف جنوبًا، إما على هيئة غزوات طارئة بهدف الكسب والغنائم، ثم العودة، وإما من خلال الحصول على أوامر تنفيذية وجبائية، واستغلال تلك الأوامر الإدارية في فرض الجبايات الباهظة وامتلاك الأراضي الزراعية الواسعة. هذا الوضع كرّس سلطة تلك القبائل في المناطق التي انتقلوا إليها واستقر بعضهم فيها، وهو ما عُرف لاحقًا باسم "النقائل".
رافق هذا الحراك الاجتماعي القادم من الجبال تفشي حالة من التشرذم والانقسامات في فترات مختلفة من التاريخ اليمني، مما أدى إلى تحولات في القيم والمعاني. وكان لا بد أن يخضع هذا الحراك الاجتماعي للوصف والتقييم، فتم إطلاق وصف "النقائل" على سكان الجبال الذين استقروا في تلك المناطق، وهو وصف لا يخلو من التلميح بالمعايرة والاحتقار. كما تم وصفهم في تهامة والسهول بـ"الجَبَلي/ الجَبَالِيَة"، وهو وصف ينطوي على معنى سلبي يرتبط بالخشونة والجفاء والسلب والنهب. حتى إن بعض الوثائق تنقل على لسان الإمام يحيى حميد الدين في وصف اندفاع سكان الجبال نحو اليمن الأسفل (إب، تعز)، القول: "يا خزا البلا، من جاع حمل مسَبّه واليمن..".
وبالمقابل، لم يجد هؤلاء النقائل مبررًا وصفيًا لهذا الانتقال وما تبعه من خصومة مع السكان الأصليين سوى وصف هذه المناطق وسكانها بأرض البغاة الخارجين عن سلطة الإمام، وأحيانًا كانوا يصفون تلك المناطق بـ"بلاد الوَطَأ أو الوَاطِية"، وهو تعبير يتضمن تحقيرًا وتقليلًا من شأن السكان الأصليين. وأحيانًا كانوا يصفونهم بالقول: "أخدام أو أحباش ليسوا قبائل".
الحمدي وهيئة التطوير التعاوني
في منتصف السبعينيات، أدرك إبراهيم الحمدي طبيعة الصراع وأبعاده الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية، فبادر إلى تأسيس هيئة التطوير التعاوني التي ركزت دورها على تعزيز التنمية الاقتصادية والثقافية في اليمن بشكل عام، وفي تلك المناطق بشكل خاص. حيث أولت الهيئة اهتمامًا خاصًا بالأراضي الزراعية، وعملت على إنشاء السدود والحواجز المائية لزيادة معدل الاكتفاء الذاتي، وتقليل الاعتماد على الموارد الخارجية. أسهمت هذه الجهود في تقليص النزعات نحو العنف والغزو، مما أدى إلى تقليص منابع العنف الأهلي والعطش المستمر للفيد والنهب.
لكن النظام السياسي الذي جاء بعد إبراهيم الحمدي اشتغل على إذكاء العصبية القبلية وتأجيج الصراع الداخلي بهدف إشغال الناس بصراعاتهم البينية، فكانت النتيجة اشتعال حرب الثارات، وظهور ما عُرف بالحملات القبلية مثل حملة أبو لحوم على المناطق الوسطى في إب، وهذه الحَملات هي خليط من الجيش النظامي المدعوم بجماعات قَبَليّة يتم إرسالها مقابل الغنائم والجبايات التي يحصلون عليها. بلغ العنف الأهلي ذروته في التسعينيات، بخاصة بعد حرب الانفصال (1994)، إذ تم تجييش الشمال قبليًا ومناطقيًا بحجة الدفاع عن الوحدة، تحت شعار "الوحدة أو الموت". وكانت النتيجة هي تغوّل الشمال، خصوصًا شمال الشمال، على كل اليمن. وبعد الحرب، كان لا بد من مكافأة المنتصرين، فتم تقاسم الأراضي الزراعية في أبين ولحج والوديان الواسعة حول وادي مور والسهل التهامي، وكذلك تقسيم الأراضي العقارية والمباني الحكومية في عدن كمكافآت للمشايخ وضباط الجيش. وبدأ الفرز العصبوي القائم على احتقار سكان الجنوب وسكان السهول والوديان من جديد، فوصم كل جنوبي بالانفصالي، وأعيدت مفردات مثل "لغلغي" و"برغلي" إلى الواجهة من جديد لوصف سكان اليمن الأسفل.
في صنعاء العاصمة ومراكز المدن في الشمال، تم تشكيل برجوازية طفيلية استحوذت على الوكالات التجارية الأجنبية والقطاع المصرفي والعقارات، ليتم سحق صغار التجار والحرفيين التقليدييّن، الذين كان أغلبهم من المناطق المسالمة في ريمة ووصاب وإب وتعز والمحويت. حتى إن شارع تعز في صنعاء استحوذت على القطاع العقاري فيه أسرتان من ذمار، هما الكميم والبخيتي. وأمام هذا الضغط غير المتكافئ نشأ ما يمكن أن نطلق عليه "اقتصاد الكفاف المتحرك" في الشوارع، وأصبحت "العربية الصغيرة" رمزًا لهذا الاقتصاد الهشّ، واقترن وجودها بالريمي والمحويتي والوصابي دون غيرهم. ولأن هذا الاقتصاد المتحرك لا يُلْحق الضرر باقتصاد الريع العقاري والمصرفي المتنامي، فقد سُمِح لهؤلاء بالعمل والتنقل بالشوارع، بالإضافة إلى السماح للعاطلين عن العمل من خريجي الثانوية والجامعات من تعز وإب، بالعمل في اقتصاد موازٍ "البسطات". وقد شكّل هذان الاقتصادان مصدر دخل للمتنفذين من موظفي البلديات وأقسام الشرطة وعقال الحارات.