تهل تباشير العيد، تركض بين الباب الكبير وحلاوة بورسعيد...
كان شارع 26 يحمل الفرح أمواجًا لليمنيين... كانت الستينيات وهج الحلم
دكاكين الشارع تعرف بعضها، والناس لم تستوطنها السيارات كما هو الحال الآن، لذلك كانوا يلتقون، والتلفزيون لم يفرق جماعتهم، فالراديو متوفر وراء فترينات واجهات المحال، ويمكن لأي كان إذا سمع عبدالناصر يخطب، أن يدخل ويسمع! بالعكس، كان أصحاب الدكاكين يرحبون به... كان الناس يحلمون وعبدالناصر عنوان الحلم.
شارع سبتمبر تعز لم يأخذ حقه، لم تعرف به الأجيال اللاحقة لتدري أي شارع هو وماذا يعني في تاريخ هذا الوطن المتشظي الآن!
وحده الفارس الأسود يظل طالع العقبة على صوت "دق القاع دقه"، حتى إذا نبهه راكب ذاهب إلى العرضي:
جمال يخطب يا فارس، يقف جانبًا ويطفئ المحرك، ويظل هو وركابه يستمعون، وسط الهتافات في أعماقهم! حتى عبده حبيبي ببابوره "تونس" يكون قد وقف أول الناس انتظارًا لخطاب الزعيم! و"الوعي الثوري" بالقرب يفتح صوت الراديو على الآخر للذين لم يجدوا موطئ قدم في الدكاكين!
من أول شهر رمضان يحتلني التفكير بالسفر إلى العيد في القرية، والقرية بها القرآن والطفولة، ولا بد من مفاجأتهم، العام الذي مر بجزمة أبو صاروخ! هذا العيد لا بد من كوت ومن عند غيلان، وغيلان الدبعي عنوان أناقة ثورة سبتمبر 62.. ومن يلبس من خياطة غيلان يكون من الفائزين...
أجد من يقنع والدي بأن يسمح لي بالسفر طبعًا بعد جهد بالغ، لكنني كنت أدري من هو المؤثر عليه، ولا يرد له طلبًا!
ثم أتصنع المسكنة، وأطلب أنا مباشرة كوت وكوت كشمير، يقول:
روح كلم غيلان على حسابي
تعز في شارع 26، والناس تعرف بعضها... والشارع كله يعطي بلا حدود، ومؤمن بالحلم الذي وئد بسبب الأخطاء التي لا تغتفر...
أقف خجلًا أسفل الدرجات حق دكان غيلان قاسم الدبعي، أنسى نفسي للحظات، إذ أظل أمسح وسامة الرجل وأناقته:
شعر أسود لامع، وبسببه كم صرفنا من أي مصروف شخصي على "بريلكريم" ليكون شعر رؤوسنا مثل حق غيلان، ولكن لا فائدة، من الأخضر إلى الأحمر، يظل شعري مثل شعر أمي أجعد..!
شميز أبيض مكوي، سروال أسود، قامة قصيرة ممشوقة، الله عليك يا غيلان، فقد كان وسيمًا ورث الوسامة من والدته الكريمة رحمها الله. والوسامة تراها في الشكل العام لشقيقه د. سلطان، وكذا الأناقة... أما الجزمة فمن حق مستودع الثورة قبل آخر دكان، حق أحمد محمد مقبل... الأنيق الآخر في الشارع كان الأستاذ عبدالرؤوف نجم الدين، ربما هو الوحيد من كان يلبس أيام بداية الستينيات بدلة كاملة، ويربط الكرفتة أو ربطة العنق، سمها ما تشاء... تيمنًا بعبدالناصر، لبس والدي بدلة كاملة خلعها يوم أن حصلت النكسة، حنقًا على عبدالناصر، وما كان يمثله...
يراني غيلان وأنا كنت خجولًا:
ها يا ابن الشيخ، أيش، تعال...
أتكلم بصعوبة:
أشتي كوت كشمير، وأضغط على "كشمير"
يمسك المتر ويروح يسجل القياسات، وأنا أعرق
يكمل:
مع السلامة، قبل العيد بخمسة أيام تعال..
حتى يأتي الموعد لا ينفك الخيال يعمل بكل عنفوانه:
كيف باكون بالكوت؟
كيف بيحسدوني العيال في البلاد؟
كيف لما ألبس الجزمة أيضًا؟
كيف بتصيح عمتي:
الله محسنك، شقصف عمري عليك
يأتي الموعد قبل العيد بأيام، وكل جوارحنا ومشاعرنا تذهب هناك بعيدًا حيث الطاسة والمرفع و:
"يا عيدوه.. الخادم كسر إيده"
أذهب جريًا نحو غيلان
عند الدكان أجد آخرين ينتظرون، جو من الرهبة يطغى على المكان
يلمحني وأنا ألمح سلطان
يبتسم غيلان:
تعال يا ابن الشيخ، يا وليد كوت عبدالرحمن جاهز؟
وأنا بكل جوارحي أنتظر الرد الذي أدعو الله ألا يكون تأخرت خياطته
نعم
هنا نعم أحس أنها تتردد في جنبات الجبال، وبالذات صبر، مثلما كان صوت مدرسة الثورة يتردد صداه بين الضبوعة والقاهرة والمهيمنة على الساحرة قمة العروس، مارًا من وادي المدام الذي سمِّي كذلك نسبة إلى الألمانية "إيفا بروك"، وكانت ممرضة قصر الإمام الذي منحها حصانًا أشهب كانت ترتفع به على صدر الجبل، فتمر من الوادي أيام الإجازة والعطل!
خذ يا ابن الشيخ
لا أكاد أنطق، حتى يقولها غيلان:
روح أنا داري أنا شحاسب الشيخ
لا تكاد الأرض تحملني من الفرح، أحس أنني أطير، كيف لا! والكوت الكشمير من غيلان...
في البيت أضعه في مكان لا يدريه غيري
ثمة طابق أرضي، وأنا أكشف سرًا لأول مرة:
إلى ذلك "البدروم" -دعنا نفترض ذلك- كانت بيت المخلافي تكنس، خلال سنوات امتلأ الطابق بالتراب، وأنا وجدت مكانًا أخبئ فيه حاجتي، سن المراهقة سن الخيال الجامح، كنت طوال الليالي أستحضر الكوت، وأحيانًا أتخيل أن يدًا امتدت له وسرقته، فأفزع منتصف الليالي، فأنزل على رؤوس أصابعي لأطمئن على الكشمير... أتحسسه، فأطمئن، فأعود إلى فراشي، وأواصل النوم...
كان غيلان قاسم الدبعي غلاف الحلم الكبير الذي سكن شارع 26، وكان الكوت والبدلة الكاملة والكرافتة عنوان الانتماء إلى اللحظة... وكانت الجزمة أبو صاروخ إحدى وسائل الانتقال إلى العصر، بخاصة والناس لم يلبسوا الجزمات بأنواعها في شمال الوطن، إلا بفضل ثورة سبتمبر 62!
هنا تحضر عبارة العم أحمد عبده ناشر، عندما سأله أحدهم:
هيا ما فعلت لك الثورة؟
أجابه:
يكفي أنها ألبستنا جزمات...
أغادر تعز صعودًا نهاية العام 69، أترك تعز، لكن 26 سبتمبر وغيلان الدبعي ظلا في خيالي، وفي صنعاء لبسنا الكشمير من رائد الأصواف...
مكان وزمان وأشخاص لا بد أن نؤرخ لهم، أو بالأصح نفتح الباب، ونتركه مواربًا لكي يأتي المؤرخون ويكتبوا عنهم...
حسبي أنني استفززت الذاكرة الجمعية
هذا إذا هي لاتزال حاضرة...
""""""""""""""""""
النداء
عبدالرحمن بجاش
21 أغسطس 2024