ثقافة جديدة بدأت تطل بقرونها الشيطانية على يمن الحكمة والإيمان... إنها ثقافة لا تليق بهذا العصر.. ثقافة ماضوية تحمل في طياتها رائحة جثامين موتى قد رمت، لكنهم لايزالون يحكموننا ويتحكمون في مصيرنا من قبورهم. وإننا في هذه التناولة نتطلع إلى الانتقال من الحديث القديم إلى حديث العصر، حديث العلم الذي ينفع الناس.
ونحن هنا لا ندعو إلى أن نتنصل من ماضينا، وإنما ندعو إلى الانطلاق من آخر مستجدات العلم، لنبني الحاضر والمستقبل، فنحن في عصر انقسم فيه المثقفون إلى قسمين؛ قسم يدعو إلى العودة إلى الأصالة، باعتبار أن المعاصرة من وجهة نظر هؤلاء انحلال وتفسخ، وفريق يريد منا أن نتخلى عن كل ما يمت إلى الماضي بصلة، فالطرف الأول بدعونا للانكفاء على الذات، لنعيش غربة زمانية. والثاني يدعونا إلى أن نعيش غربة مكانية، لا تمت لواقعنا بصلة.
لقد تمكن فلاسفة العرب المسلمون من تبيئة ثقافة اليونان، فخدموا البشرية، وبفضلهم استطاع الغرب أن يسترجع ثقافته التي بادت منذ آلاف السنين، وعملوا على تطويرها، وصححوا وقوموا الاعوجاج، وطوروا نظام الحكم المدني، وتوصلوا إلى أن الدين أخروي أحكامه آجلة، والسياسة دنيوية أحكامها عاجلة، وبذلك أعادوا الحق إلى نصابه، واختاروا حكامهم عبر صناديق الاقتراع، وأسندوا الأمر لأهله وهو الشعب.
إلا أن من المفزع والمرعب، أننا نستمع لخطباء الجمعة، والوعاظ السياسيين، وهم يستجرون ثقافة ما أنزل الله بها من سلطان، ويشعلون حروبًا كلامية، كانت مدفونة في بطون كتب اصفر لونها بفعل الزمن، فأذكوها من جديد، ومن المثير للسخرية أنهم يتعاملون مع عهد الإمام علي إلى الأشتر النخعي، ويرددونه ليل نهار، ويشرحون جمله التي لا تحتاج إلى شرح، ومع ذلك يمرون على بعض ما فيه من حكم، ولا يعملون بها، فقد أكد الإمام علي للأشتر أن يكون نظره في إعمار الأرض أبلغ من جبايتها، وهؤلاء يركزون على الجبايات، وخراب الأرض، وتهجير رأس المال الوطني إلى دول الخليج ومصر وتركيا، يفعلون ذلك وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا.
وقد وجدت، في المقابل، أن هناك من ذهب إلى مزبلة التاريخ للبحث عن ود وسواع ويغوث ونسر، وعبهلة. وثقافة أقيال في عصر المواطنة المتساوية.
إن هذا الاستقواء بتراث ممزق لنسيجنا المجتمعي، أثار القحطانية ضد العدنانية، وهي دعاوى باطلة جاهلية المنزع.
وقبل أيام لفت انتباهي وأنا أقرأ كتاب نصوص حميرية للدكتور يوسف محمد عبدالله، وجود نقش مفزع فيه يقول إن حربًا نشبت بين حاكم اليمن وبعض المناطق التي تمردت عليه، فأخضعها بالقوة، فقام بردم آبار المواطنين، وسبي نسائهم وغلمانهم، وهدم دورهم، ونقش آخر يقول بأن أصحاب المناطق الجبلية في شمال الشمال غزوا المناطق الساحلية حتى وادي حضرموت؛ ومن المفارقات أن ثقافة الضم والإلحاق والوحدة بالقوة، هي ثقافة متجذرة، والسبب أن كل الحكومات تستغل الدين لاستباحة الدماء، وما أشبه اليوم بالبارحة، فنحن نعاني من الكارثة اللعينة التي حدثت عام ١٩٩٤م، والتي ألغت الوحدة السلمية بالانقلاب على العملية السياسية بقوة السلاح، وكأنها تكرار لحروب الأسلاف.
وأنا أقرأ تلك النقوش انتابتني مشاعر القلق والاضطراب تجاه بعض الممارسات الثقافية التي نعيشها في مجتمعنا اليوم، وتغذى من قبل سلطات الواقع، ويعتبرون تلك الخطب والدروس المزيفة لوعي الناشئة ثقافة، ويبتدعون هوية إيمانية لا يستطيع أحد أن يحددها، فالإيمان موضوعه القلب، والله وحده هو العالم بمن ضل ومن اهتدى، ويجب أن يعلم هؤلاء أن الهوية اليمنية هي الهوية الشاملة التي تستظل تحت لوائها كل الهويات... وفي الختام نتمنى على الجامعات والمراكز العلمية أن تقوم بمراجعة التاريخ، والاعتراف بجوانب الممارسات السلطوية والقمعية التي كانت سائدة في الماضي ضروري لتجاوزها والنهوض بالمجتمعات نحو الأفضل.
وكما أوضحنا، فإننا أمام حقيقة بأن التاريخ يكرر نفسه، من خلال تكرار الصراعات والانقسامات، والسعي لفرض الهيمنة والسيطرة على الحكم بالقوة، والماضي يعكس واقع الحال اليوم. ومع التطور الحضاري والتقدم الذي شهدته البشرية في العصور اللاحقة، باتت مثل هذه السلوكيات غير مقبولة في عصرنا الحالي.
فما هو الحل؟
الحل يكمن في تبني ثقافة الحوار والتسامح والقبول بالآخر، وتجاوز عقلية الصراع والهيمنة. كما يتطلب الأمر إعادة النظر في المناهج التعليمية وطرق التنشئة الاجتماعية لنشر ثقافة التنوع والاعتراف بالحقوق والحريات الأساسية. هذا هو السبيل الأمثل لبناء مجتمعات منفتحة وعادلة تتجاوز أخطاء الماضي.
وأؤكد أن اللجوء إلى القوة والانقلابات لن يؤدي إلا إلى المزيد من الدمار والانقسام في المجتمع اليمني. الطريق الصحيح هو تبني نهج الحوار والمصالحة الوطنية الشاملة، وتجاوز ثقافة الماضي المليئة بالصراعات والتمييز.
وفي هذا الصدد، أدعو إلى ضرورة استئصال ثقافة الجهل والتخلف التي أصبحت اليوم سيدة الموقف. والآن في عصر الديمقراطية والتعايش السلمي، يجب علينا التركيز على قيم التآخي والتنافس البناء من أجل المصلحة الوطنية العليا.
وعلينا كشعب يمني أن نتعظ من الماضي، ونستفيد من عبره وتجاربه، وعدم تكرار ممارساتهم الفاشلة، وأن نتطلع إلى بناء مجتمع متسامح ومتنوع، تسوده العدالة والمساواة. إن هذا هو السبيل الأمثل لتخطي محنة اليمن والنهوض بالوطن. ولكي نعيش عصرنا وزماننا وفق علومه المتجددة، ولكي نستفيد من تجارب الأمم التي سبقتنا، علينا أن نركز على الآتي:
- تطوير إطار دستوري وقانوني شامل يكفل فصل السلطات وحماية الحقوق والحريات الأساسية، على غرار الدساتير الديمقراطية المستقرة في العالم.
- بناء مؤسسات حكومية فعّالة وشفافة تعمل بمهنية وحياد، بعيدًا عن المحاصصة السياسية أو المحسوبيات.
- تطوير نظام انتخابي عادل وشفاف يضمن تمثيل جميع الفئات والتيارات السياسية.
- تعزيز دور المجتمع المدني وحرية الإعلام والتعبير، كركائز أساسية للديمقراطية.
-الاستفادة من برامج التنمية والإصلاح الاقتصادي في الدول الأخرى، مع مراعاة الخصوصية الثقافية والاجتماعية لليمن.
- بناء ثقافة مواطنة وحوار وطني شامل بين مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية.
هذه بعض الدروس والممارسات التي يمكن الاستفادة منها لبناء ديمقراطية مستدامة في اليمن، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف والسياق المحلي.