من أين يا سعاد يأتي كل هذا البرد! - جمال جبران
البرد بلا أخلاق وبلا ثوابت وطنية. (لكنه مع ذلك هو لا يعقد صفقات سياسية خاسرة وفاضحة كما لا يلعب من تحت الطاولة المستديرة!)... البرد ليس عاطفياً وبلا قلب. لا يمتلك بريداً الكترونياً أو صفحة خاصة على موقع ال " فايس بوك ". البرد لا يستطيع متابعة أخبار البلد على موقع " نيوز يمن أو مأرب برس أو سبتمبر نت ". البرد لايمكنه متابعة آخر أخبار الحراك في الجنوب ولا أخبار المعتقلين. البرد لا يعرف عبد الكريم الخيواني وفهد القرني وحسن باعوم.
(1)
البرد منفى.
البرد منفيُ ووحده يقيم في فضاء الشوارع الخالية. الناس في بيوتهم خلف جدرانها ووحده المنفيُ بلا رفقه أو مدفأة أو أطفال يلعبون بأطراف أصابعه. البرد بلا كبرياء، يتركه الناس لوحده ويذهبون إلى بيوتهم.
البرد بلا أهل. يتيمُ ويشبه مولوداً خرج إلى الدنيا، في حين يقيم والده في السجن محكوماً بعشر سنوات سجن بقضية ملفقة.
البرد منفى.
البرد منفيُ وسيبقى على حالته هذه حتى آخر قطرة من أيامه.
البرد بلا وطن، (لكن ما نفع الوطن!).
البرد بلا أخلاق وبلا ثوابت وطنية. (لكنه مع ذلك هو لا يعقد صفقات سياسية خاسرة وفاضحة كما لا يلعب من تحت الطاولة المستديرة!).
(2)
البرد منفى.
البرد منفيُ ولا يذهب إلى السينما.
البرد لايعرف من تكون سعاد حسني أو اسمهان أو حتى ليلى مراد. البرد لا يعرف فريد شوقي أو أحمد زكي وإسماعيل ياسين. البرد لا يعرف حلاوة عنق وردة الجزائرية ولاعمايل شمس البارودي في فيلم " حمام الملاطيلي ". البرد لا يعرف فؤاد الكبسي أو " الحبيب الذي مال عنا واحتجب ".
البرد قليل أدب.
البرد منفى.
البرد بلا غطاء يقيه من البرد.
(3)
البرد منفى.
البرد بلا تلفزيون ملون ولا قنوات فضائية ولا يشاهد مثلنا مسلسلات تركية مدبلجة.
البرد لا يعرف حكاية " نور ومهند "، وما صارت إليه.
البرد ليس عاطفياً وبلا قلب. لا يمتلك بريداً الكترونياً أو صفحة خاصة على موقع ال " فايس بوك " الشهير. البرد لا يستطيع متابعة أخبار البلد على موقع " نيوز يمن أو مأرب برس أو سبتمبر نت ". البرد لا يمكنه متابعة آخر أخبار الحراك في الجنوب ولا أخبار المعتقلين. البرد لا يعرف عبد الكريم الخيواني وفهد القرني وحسن باعوم.
البرد لا يمتلك مواعيد غرامية وعاجز عن إرسال رسائل " إس إم إس ". لم يكن طالباً جامعياً في كلية الآداب ولم يُمنح فرصة الجلوس تحت أشجارها وتبادل الكلام الدافئ مع كائنات دافئة وحلوة.
البرد بلا ذكريات وبلا ألبوم صور، يحتوي على لقطات مأخوذة من حفل التخرج ورحلات إجازة الترم الأول. البرد لم يدخل في صراعات " أخلاقية " مع طلاب حزب الإصلاح الديني وعميد الكلية الذي كان يعارض مثلهم، مثل هكذا رحلات مختلطة ومفتوحة على مجونها!
(4)
البرد منفى.
البرد منفيُ.
البرد جبان ويضرب من تحت الحزام، والجلد. البرد يدخل من تحت الجلد ويؤذي تماماً. البرد يذهب بالأطفال إلى مستشفى السبعين للأطفال والنساء والولادة في أنصاف الليالي. الأطفال مهنته المحببة وهوايته المغرورة بنفسها. البرد بأسنان حادة وينهش في القلب. الأطفال بلا حول ولا قوة. الأطفال بريشٍ مبلول وبأجسادٍ متهاوية هشة ولا يملكون غير البكاء.
البرد عدو دوريات الشرطة الليلة وجنودها الذين يدافعون عن أنفسهم بأنفسهم ويقدرون ردعه. الجنود بأسلحة مدججة وذخائر ويستطيعون الدفاع عن أنفسهم. الأطفال لا يستطيعون ذلك. ولذلك يُذهبُ بهم إلى مستشفى السبعين. الأطفال ضحايا البرد. فمن أين يا سعاد يأتي كل هذا البرد!
(5)
البرد مجرم حرب متورط في جرائم ضد الإنسانية. سيذهب يوماً إلى المحكمة الجنائية الدولية أسوة برفقته الذين بدأوا يكرّون مثل السبحة واحداً واحداً، والطابور طويل.
البرد كان بطلاً رئيسياً في فيلم " الجبل البارد " لنيكول كيدمان وجود لو. الفيلم الذي يحكي قصة الحرب. البرد والحرب وجهان لقذارة واحدة وكبيرة. لابد أن يساق البرد إلى المحكمة الجنائية الدولية تماماً كأصحاب الحرب، أي حرب. البرد ظلمات بعضها فوق بعض والحرب كذلك، أبطال الحرب ظلام وقتلة ينهشون قلوب الأطفال .
نقفل الأبواب فيدخل البرد من النافذة.
ننتبه للنوافذ لتدخل الحرب من الباب.
البرد عارُ، والحرب كذلك. ولا ينفع نزولنا إلى الشوارع. (هل نذهب إلى البحر؟). البحر بعيد. البحر في عدن ويشكو الحرب الحاصلة فوقه وحواليه.
الحرب في كل مكان والبرد كذلك.
البرد تحت الجلد وفي القلب. الحرب خارج المكان.
الحرب في التلفزيونات وفي الجرائد وفي الأخبار العاجلة وعلى ألسنة مراسلي القنوات الفضائية. البرد في الكتب وفي حقائب الأطفال المدرسية.
الحرب في إشارات المرور. البرد في جيوب سائقي التاكسي. الحرب في ميدان التسعين. الخرب في ميدان الأربعة والتسعين. الحرب في ميدان الخمسمائة. الحرب في ميدان الأربعة والتسعين. الحرب في ميدان الألفين وثمانية.
لماذا يصّر البرد على البرد؟
لماذا تصّر الحرب على الحرب؟
البرد منفى، والحرب كذلك.
ماعلينا من البرد (ربما) ولو مؤقتاً. البرد يذهب ويعود مع تبدل فصول أيامنا وما عليها. البرد لا يقيم على رؤوسنا على طول. البرد يذهب مهما استقوى واستطال. حياته فصل واحد ويروح. لكن الحرب تبقى قائمة ولا تعطي بالاً لهذا التبدل وتعمد إلى تمزيق أحلامنا. الحرب لا تذهب إلى النزهة. (مع الاعتذار من الشاعر الصديق عبد الرزاق الربيعي الذي قال ذات قصيدة " عندما تذهب الحرب إلى النزهة "). الحرب لا تذهب إلى أي مكان. هي تقيم فوق أضلاعنا وقلوبنا. تراقبنا وتخشى أن نذهب إلى مكان. الحرب تخاف عيشها وحيدة من دوننا. ماذا ستفعل الحرب لو ذهبنا وتركنا لها الحياة و المكان!
إلى من نشتكي الحرب؟
البرد جان بمفرده، ونراه متبختراً أمامنا. للحرب جناة كثر ولا نستطيع رؤيتهم بالعين المجردة. للحرب أشباحها، في الغيب وعلى هذا الأخير يستقر أمر حمايتهم.
ماعلينا من الحرب. نقول في قلبٍ للمعادلة الأولى. هذه (الحرب) لا نقدر عليها.
نحارب البرد بأغطية ثقيلة من الصوف و مدافئ كهربائية وفحم المواقد. ولو دفعنا فواتير باهضة. ولو هددونا بقطع التيار الكهربائي عن منازلنا مالم نقم بدفع ماعلينا من فلوس خلال ثلاثة أيام من تاريخ استلام الفاتورة.
لكن كيف نحارب الحرب! كيف نمسك بالرصاص ونرتكب الحرب!
ماعلينا إذن من الحرب .
(6)
البرد منفى.
البرد بلا روح. (هذا ما نقدر عليه). نحن نقدر على البرد. (قلنا).
نستطيع الكلام عنه و عليه والثرثرة فوق رأسه ورأس والديه. فيما الحرب شأن الرب وعليه وحده أمر تخليصنا منها.
الحرب لا تعرف النكتة.
بمقارنة بسيطة بينهما، يبدو البرد الطرف الأضعف تماماً، في حين تباهي الحرب ببجاحة قوتها النووية العظمى. البرد إيجابي جداً إزاء الطرف المقابل.
البرد كائن مريض، نعم، ويعاني من الزهايمر طوال ثلاثة فصول. فهل نذهب إلى النوم؟ النوم علاج ناجع للبرد. النوم يمنع البرد ويحمينا منه. لكن من يحمينا من الحرب والى أين نذهب في عتمة ليالينا؟ الحرب لا تعرف جائزة نوبل للسلام.
البرد منفى ومنفيُ، بلا روح وقليل أدب.
البرد مبتذل وسوقي، على الأطفال خصوصاً (كما قلنا).
البرد فضيحة ولا يليق أبداً بوجه الحياة الصبوح. لا يليق أبداً بتبدلات الفصول.
البرد حرامي رخيص. يحترف سرقة الهواتف المحمولة من جيوب الفقراء في حين لا يقدر على تجاوز أسوار البنوك وأكل خزائنها وما فيها من عملات صعبة وسهلة. البرد سارق مواشي وما يجده من ملابس داخلية معلقة على جدران البيوت.
(7)
البرد مبتذل سوقي، وقليل أدب.
لكن الحرب لا تعرف النكتة!
Hide Mail
من أين يا سعاد يأتي كل هذا البرد!
2008-10-16