كنت على وشك النوم، وأنا أفكر في رحلتي القادمة إلى دولة معينة، عندما صادفني مقطع مصور لشاب يافع في إحدى المدن الهولندية، يغني بصوت صنعاني شجيّ "ألا يمّه كُثر خيرش". هذه الأغنية التي تمزق الفؤاد هي في الحقيقة أغنية أعراس في صنعاء وما جاورها، وفي الأغنية الكثير من الامتنان والحزن على فراق بيت الأهل. لكن صورة الشاب المهاجر وهو يغنيها جعلتني أنفجر بالبكاء فوق سريري، وأمي في الحقيقة إلى جواري! تساءلت على ماذا أبكي؟ وحينها أدركت أن أمي في هذه اللحظة بالذات كانت صنعاء.
ولدت في صنعاء، وعشت معظم حياتي هناك، حتى أنهيت الثانوية قبل الانتقال خارج اليمن لدراسة الجامعة. ومن الجدير بالذكر أنني صنعانية الأب والنشأة، ولكن أمي من مدينة عدن في جنوب اليمن. كانت هذه الجزئية كثيرًا ما تجعل انطباع الناس الصنعاني عني منقوصًا، إذ كنت في نظر الكثيرين لست خالصة الانتماء الثقافي. ولكن للمفارقة، أجدني -وبلا تحيّز ذاتي- ابنة هذه المدينة أكثر مما يحتمل ويستطيع الكثيرون. أبي الذي كان متشربًا لصنعاء وتاريخها وتدينها وأشعارها وأغانيها وعاداتها وأعيادها ونكساتها، قد نقل لي كل شيء شفهيًا وبالجينات. إضافة لذلك كنت دائمًا تلميذة الملاحظة، أراقب بنهم كل تفصيلة صنعانية في حياة أبي وأسرتي والشوارع والناس.
أتذكر أنني كنت مفتونة بجدتي لوالدي، التي كانت حتى الثمانين من عمرها، تجلس في ديوان منزلها، والديوان هو مجلس عربي بالطابع اليمني، وتقوم بتجهيز المداعة، وهي أشبه بالشيشة، غير أن حجمها أكبر، وتصنع من النحاس، ويوضع فوقها رأس كبير (بوري) من التبغ (التتن)، وفوقه الجمر مباشرة. وكان لجدتي طقوسها، إذ تقوم بإضافة عود على رأس المداعة، فتمتزج رائحة التبغ بالعود مع توارد بصري قريب لشجرة العنب من خلف النافذة الواسعة. هذا المشهد الصنعاني البهي الذي يكمّله ارتداء جدتي لملابس تقليدية، كان عالقًا بذاكرتي منذ الطفولة، وما هو إلا صورة واحدة من آلاف الصور التي أحفظها عن ظهر قلب عن صنعاء وأهلها وعاداتهم. كنت أحفظ كثيرًا من الأبيات والمقولات السجعية الصنعانية التي لا يعرفها إلا صنعاني مُعتّق، وكنت أعرف شخصيات من حكايات الأطفال التي قصها عليّ والدي، ولم أجد لها انتشارًا كبيرًا، مثل شخصية علي المفلّق التي كانت تُذكر في قصة قصيرة قبل النوم. وفي إحدى المرات كنت أحادث ابنة عمي، فقلت لها مقولة قديمة ردًّا على أمنيات كثيرة لنا لم تتحقق، فقلت: "ليت والله والإمام حمايا، الصبح سوسي والعشي سبايا". السوسي والسبايا هما أكلتان صنعانيتان مصنوعتان في الأساس من الخبز، غير أنهما معدتان بطرق مختلفة، ولهما رونق خاص عند أهل صنعاء، فيضاف البيض والحليب للسوسي، ويتم تقطيع الخبز ووضعه في طبقات. أما السبايا فهي فطيرة من طبقات رقيقة يضاف لها السمن البلدي في العادة. ومن اللافت أن بساطة التمني تشي بسوء الوضع العام في حقبة الإمامة، إذ تعتبر هذه الوجبات رفيعة المستوى، وتستأثر بها طبقة معينة مقارنة ببقية الشعب الذي كان تجلي أمنياته في عز الجهل الذي يحيط به متعلقًا بالطعام.
وكان لصنعاء طباعها الأصيلة والمكتسبة بتعاقب الأزمنة، ولها صرامة ثقافية تخففها وتعدل منها قليلًا طبقات معينة أهم ما يميزها وصولها للعلم مبكرًا قبل عهد الجمهورية، فمثلًا والدي كان ينتمي لطبقة القضاة، أي أن والده كان متفقهًا في الدين، ومعلمًا في المعلامة؛ وهي حلقات علمية تستند في غالبها إلى الأمور الشرعية، وتسنى له بسبب ذلك أن يتلقى تعليمًا أوليًا، ويتعلم القراءة والكتابة قبل أن يتم تهريبه إلى عدن حتى يكمل تعليمه، ومنها إلى القاهرة. وخلال كل هذه المحطات في أصقاع متناثرة في حياة أبي، لم يفقد ولو لوهلة حسّه الصنعاني وهواه، كان يحفظ الأشعار ويكتبها، وله توجه صريح وولع بكل الحركات التحررية في العالم، وكان يحب بيتًا شعريًا يمنيًا شهيرًا لمطهر الإرياني، وهو يقول: "صبرت صبر الحجر في مدرب السيل واعظم.. محد تعذب عذابي أو سهر أو تألم". وكان والدي الذي يكثر من إلقاء الشعر بالفصحى والحمينية، يربي فيّ بشكل عفوي الذائقة الشعرية والأدبية التي اقترنت بثقافة صنعاء.
كم هي صنعاء جوهرة ثمينة! استثنائية وأكثر انفتاحًا واعتدالًا مما يصورها الكثير على أنها عكس ذلك، وكم هي رصينة ودافئة ولاذعة، تتراص فيها البيوت والقلوب، وتلوّن قمرياتها فوق الشبابيك نور الشمس الذي يخترقها بشكل شاعري لا يضاهيه سوى جمال صنعاء الفتّان.
الشاهد أنني لست أحاول أن أثبت صنعانيتي التي تتجاوز حدود وأُطر النشأة في المكان الجغرافي إلى الانغماس الثقافي، ولكني في الحقيقة أحاول عن أجيب على سؤال الدموع التي سالت بحرارة، كأن الحنين بداخلي بركان خامد. أحن إلى صنعاء العالقة بذاكرتي، الحاضنة الجامعة، الأم التي طاعتها تأتي من الحب والتقدير، ويبقى السؤال كيف أطيعك يا صنعاء؟ وهل لنا بالوصل من أمل بعد كل الذي جرى؟ كوني صنعاء يا صنعاء دائمًا...