عن كائنات سوداء.. مهملة - جمال جبران
أطفال.. وجنود
«ذات يوم أرغمنا قادتنا على المشاركة بقتل عائلة. وقررت الهرب فالتجأت إلى الغابة، لكن بعض الجنود عثروا عليَّ وأعادوني إلى المعسكر، وهناك سجنوني وأخذوا يضربونني كل يوم. أشعر اليوم بالخوف، فلست أعرف القراءة، وأجهل مصير عائلتي. فلم يعد لي مستقبل، وضاعت حياتي، ولم أعد استطيع النوم في الليل، إذ تطاردني كوابيس تلك الأشياء المرعبة التي شهدتها وشاركت فيها كجندي».
كالامي - طفل كونغولي - 10 عاماً
هم أطفال خلقوا لموتهم. في سيراليون وليبيريا وأفغانستان والصومال والكونغو وكولومبيا وكمبوديا والنيبال. بلا وقت فائض لألعاب وتسليات الطفولة المعتادة. بلا وقت فائض متيح لجلوسهم على كراسي المدرسة. بلا أناشيد في طابور الصباح. أطفال بلا واجبات يتطلب حلها تحاشياً لغضبة مدرس هائج دائماً. أطفال خلقوا لحروب لا تشبع. وعلى طول تود ذخيرتها. في رواية أحمدو كوروما «الله ليس مجبراً» قرأنا عن تورط دول وأنظمة عربية وأمراء حروب في عملية تسمين الاطفال -الجنود أو «enfants -soldats». في فيلم «الماس الدامي» لديكابريو (2006). كُشف النقاب عن الكيفية التي يتم بها تأهيلهم منذ نعومة أظفارهم لهذه المهمة. الاغراء المادي أولاً. التعبئة النفسية. كل العالم عدو لكم. كل ما تطلبونه تجدوه بين يديكم حالاً. إدخالهم في الإدمان. تدريبهم على القنص بأعين مفتوحة. تدريبهم تالياً على القنص بأعين معصوبة والأهداف كائنات حية مربوطة على عمود قبالتهم. هم لا يعرفون ذلك. يصوبون فقط فيما النتيجة ستأتي لاحقاً حال اكتشافهم ما أصابوا بنيرانهم. هي نوبة صراخ مؤقتة فقط. بعدها يتأقلمون مع الحال فيما يدمنون عليه لاحقاً. يصير للقتل لذة ومزاج. يصبح مهدئاً ولا يكون النوم ممكناً بدون فعله. يصبح القتل وسيلة وحيدة للبقاء على قيد الحياة «هم يلجأون إلى القوة المفرطة ويطلقون النار بدون سبب وغالباً، لا يدركون نتائج أعمالهم والمعاناة التي يفرضونها على الضحايا».
تقدر الاحصاءات الخاصة بالأطفال الذين يزج بهم في النزاعات المسلحة أن عددهم يقدر بحوالى الثلاثمائة ألف طفل على صعيد العالم. بينما تتحدث منظمة اليونسيف عن تجنيد أكثر من 250 ألف طفل عام 2006 بعضهم لا يتجاوزون السابعة من العمر.
نجاة على قارب موت
هو لا ينظر إلينا. ولا للكاميرا الموجودة قبالته. هو ينظر وبعين لامعة للجهة الأخرى من البحر. أوروبا أو الفردوس الموعود. هو ينتظر، بفارغ صبر، هبوط الليل. قدوم قارب نجاته/ موته. هارب من أرضه باحثاً عن حياة أخرى، بديلة. هارب بلا لفتة واحدة إلى الوراء.
هارب بلا حنين، لا وقت لديه لفعل ذلك. الحنين أمر لا طاقة له به. هو يود هروباً ولا غير. الهروب بما هو فرصة أخيرة للعيش كما يليق. كأن الانتقال من ضفة إلى أخرى حل أكيد أكيد للمسألة. سيكون الموت أكيداً في الماء لكنه لا يراه، أو أنه لا يرغب رؤيته. هو يرى البحر نجاة، مع أنه ليس كذلك.
تفيد التقديرات الأخيرة للأمم المتحدة الواردة في تقرير الأمين العام «الهجرات الدولية والتنمية 14 و15 سبتمبر 2006» تفيد بأن التعداد الاجمالي للهجرة في العالم يبلغ حوالى مائة وتسعين مليون نسمة وأن نسبة الهجرة السرية فيه تتراوح ما بين عشرة إلى خمسة عشر بالمائة، أي ما بين تسعة عشر مليوناً وثمانية وعشرين ونصف المليون المهاجر سري. غالبية هؤلاء لا يجدون أمامهم غير قوارب الموت كوسيلة انتقال. ذاتها القوارب المملوكة لعصابات إتجار بالبشر لا يهمها شيء، غير المال ولو كان هذا على حساب الارواح المتكدسة على تلك القوارب. «تفيد الاحصائيات الرسمية الاسبانية بأن هناك تفاقماً مطرداً للهجرة السرية باتجاه جزر الكناري والتي بلغت في الأشهر التسعة الأولى لسنة 2006، ثمانية عشر ألف نسمة رافقها هلاك عدد ضخم من الضحايا غرقاً، إذ عثر على ما يناهز ستمائة جثة غريق في نفس الفترة».
تأنيب لا شكوى
13 إصبعاً، ممسكاً بخناق عمود، أو ما تبقى من شجرة ميتة. ممسكة بها كحبل نجاة. 13 إصبعاً وستة أعين في المجموع. أصابع ممسكة وعيون تنظر إلينا، هي لا تنظر لعدسة كاميرا، هذه الأخيرة وسيط فقط. هي ستة أعين وتنظر إلينا. النظر هنا بوصفه تأنيباً وشكوى. قد يكون تأنيباً فقط إذ لا مجال لشكوى وقد كان ما كان. الشكوى ترف.
«على مدى الخمسة عشر شهراً الماضية، كانت تشاد مسرحاً لمزيد من الاضطرابات، مما حمل معه ما يقرب من مائتي الف شخص للجوء في اثني عشر مخيماً على الحدود، حيث يشتد العبء الملقى على عاتق النساء وعلى من ترعاهم من الاطفال يترجم نفسه في تعبير حانق على العالم اجمع يرسم نفسه في الأعين التي تستشعر الظلم».
الصورة من مخيم فرشاتا على الحدود السودانية
الموت كحل
ما حاجتك للأكل يا أيتها الشقية الصغيرة!
لا حياة أمامك. لا أيام بيضاء بين يديكِ. حياتكِ غير قابلة للحياة. ستعيشين دائماً بكتفين مثقلتين. حياة بلا معنى وفاقدة لشرطها الطبيعي. حياتك ناقصة، حياتك مخلوعة بشكل مسبق. أو من هذي اللحظة، ومحال اكتمالها في دارفور، جحيمك الحالي. لا شيء تندمين عليه. لا تكوني مغفلة وامتنعي عن طعامك من الآن. لا تصدقي أمك البائسة هذه التي ترغب إذاقتك ما ذاقته هي في أيامها السوداء الفائتة. ليس حناناً ما تفعله لك. ليس طعاماً ماتعطيك إياه. هو تذكرة عبور لموت طويل مقسم على مراحل.
تمردي على هذه الأم القاسية. كوني طفلة عاصية، عاقة، تمردي على هذه الأم المجنونة واختاري موتك. موت عاجل سريع أهون عليك من موت طويل وعلى مراحل. موت على دفعات. موت له أمر انقاذك من تجارة مزدهرة على حساب من هم مثلك. جسدك سيغدو سلعة. فرصة سانحة للاتجار به وتصديره إلى دول الجوار وإلى من يستطيع أن يدفع ثمناً مناسباً له ولك!
موتي مرة واحدة. واستريحي قبل معانقة عذابك الطويل... المنتظر.
«في واحدة من أحدث مآسي النزوح، أجبر القتال الدائر في دارفور حوالى مليوني شخص على ترك ديارهم، وتواجه النازحات بصفة خاصة الكثير من المشاكل اليومية، فيتعين عليهن جمع الحطب وجلب الماء والبحث عن الغذاء. والصورة من مخيم قريضة في دارفور غرب السودان.
اشارتان
* الصور والأرقام الواردة في هذي الكتابة مأخوذة عن مجلة «الإنساني» الصادرة عن الصليب الأحمر الدولي - ربيع 2007.
* شكر ممتد للصديق نبيل الصوفي الذي كان حلقة وصل بين المجلة وبين كاتب هذه السطور.
jimy
عن كائنات سوداء.. مهملة
2007-07-26