صنعاء 19C امطار خفيفة

العلاقات اليمنية الروسية: مخاوف الركون للوهم؟

2025-06-21

تعود العلاقات اليمنية الروسية إلى الثلث الأول من القرن الماضي، لكنها في كثير من فصولها اتسمت بالشكلية. في العهد الملكي، وعلى الرغم من عقد معاهدة للصداقة عام 1928، سميت معاهدة "صنعاء"، فقد كانت الريبة والخوف هي السمة المميزة لعلاقة الطرفين. يمكن أن نجد في محركات البحث تفصيلًا شاملًا عن المعاهدات والاتفاقيات المعقودة بين اليمن الاتحاد السوفيتي وروسيا.

 
لم تكن معاهدة صنعاء بذلك التفصيل الذي تحتويه المعاهدات اللاحقة، ذلك لأنها تضمنت خمس مواد فقط، شملت مسائل كاعتراف الاتحاد السوفيتي باستقلال المملكة المتوكلية، ونظمت التجارة بين البلدين، ولم تمس أيًا من الجوانب المتعارف عليها في المعاهدات بين الدول. ولم يبلغ التبادل التجاري بعد توقيع المعاهدة مستوى قياسيًا يترجم بنودها، برغم التجديدات المستمرة لتلك المعاهدة. وقد سارع الاتحاد السوفيتي إلى مساندة ثورة 26 سبتمبر فور اندلاعها، وقدم الكثير من الدعم، لكن مآلات الأحداث جرفت الجمهورية العربية اليمنية في اتجاه آخر. على الرغم من تطور العلاقات بين الطرفين، فقد سعت كثير من الأطراف المحلية والإقليمية إلى تسميم تلك العلاقة بذريعة محاربة المد الشيوعي.
كما دعم الاتحاد السوفيتي ثورة 14 أكتوبر جنوبًا ثم دولة الاستقلال. يكاد يكون الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية أكثر الدول مساهمة في تأهيل مختلف الكوادر، وتمويل وتنفيذ المشاريع التي تحققت في البلاد خلال 60 عامًا مضت. لقد ترسخت هذه العلاقات بصورة مضطردة، ولكنها مع الزمن تحولت إلى علاقة تبعية تهيمن الأيديولوجيا عليها. وبدلًا من الاهتمام بتطوير البنية الاقتصادية للدولة الجديدة، وتنويع مصادر الدخل الوطني وأشكال الإنتاج، انصب الاهتمام نحو تسويق الفكرة الاشتراكية بصورة اقتباسات آلية دون تمحيص أو قراءة واقعية للنص وتطبيقه وفقًا لمقتضيات وطنية خاصة، مع أن الاشتراكية كأية نظرية أخرى مليئة بما يمكن الأخذ به، ومليئة بما لا يتوافق وطبيعة المجتمع لا من حيث تاريخه ولا من حيث درجة تطوره أو تقاليده الخاصة. وهي تعطي محفزات لتطوير القطاع العام والتعاوني، وجعله ندًا ومنافسًا للاقتصاد المبني على الملكية الخاصة، إذا توفرت أدوات فعالة للرقابة والتحفيز. وهكذا تحولت البلاد إلى عالة على داعميها في الشمال والجنوب على حد سواء، فلا صار الجنوب اشتراكيًا، ولا الشمال رأسماليًا، بل صار اشتماليًا.
لم تجرِ دراسة وتقييم العلاقة اليمنية السوفيتية أو اليمنية الروسية دراسة نقدية بناءة، فقد اكتفى الباحثون اليمنيون المتحمسون والرافضون لتلك العلاقة بالمنهج النقلي في توصيفها مدحًا وقدحًا، الأمر الذي لا يفيد صانع القرار بشيء لو أراد رأيًا. فلم يدرس الباحثون طبيعة المتغيرات الدولية وأثرها على السلوك السياسي للدول، ولم يعنوا بالتصورات الروسية عن أن التحالفات تحتاج إلى أنظمة مستقرة غير مشاكسة خارجيًا أو متشاكسة داخليًا.
مؤخرًا تم تناول زيارة رشاد العليمي إلى موسكو يوم 27 مايو الماضي، كأنها أحد الفتوحات التاريخية، المجيدة، التي ستنقل البلاد والعباد إلى جزيرة الاحلام الغابرة. هو مقال وحيد نشره موقع "المشهد اليمني" بعنوان: "زيارة الرئيس العليمي إلى موسكو.. رسائل سياسية عميقة وثمرة جهود دبلوماسية متقنة". ثم تم تعميمه على كم هائل من المواقع بما فيها الموقع الرسمي لوزارة الخارجية، مع العلم أن الموقع نفسه لا يحتوي على البيان المشترك لهذه الزيارة، لأنه لم يصدر بالأصل. وكل ما حصل عليه رئيس مجلس القيادة هي دعوة للمشاركة في القمة الروسية العربية في أكتوبر القادم.
جاء المقال مشحونًا بالكثير من المفردات التي لم تخطر ببال الروس، وربما ببال العليمي نفسه، وهي بالمجمل مفردات تتغنى بإنجازات وزارة الخارجية وخطها الجديد المتوازن في العلاقات الدولية و... ومع أن الاستقبال الذي حظي به العليمي في موسكو كان عاديًا من قبل نائب وزير، وليس كما وصفه كاتب المقال بـ"الاحتفاء الروسي" الذي يؤكد "المكانة التي يحتلها اليمن والقيادة اليمنية في المعادلة الإقليمية والدولية"، وكأن لدينا دولة عظمى يقودها جهابذة السياسة يتحكمون بمصائر العالم، ولسنا شعبًا يتضور جوعًا، ويقعده المرض والعوز والخوف من اليوم قبل الغد، ينهار فيه كل شيء عدا الفساد والإفساد.
دعوكم من رأينا نحن، فلننظر لرأي النخبة الروسية في العلاقات اليمنية الروسية والسلطات اليمنية ككل: نشرت وكالة تاس الروسية مقالًا في موقعها يوم 28 مايو، بعنوان "ماذا نعرف عن العلاقات بين روسيا واليمن؟"، في المقال تستعرض تاريخ تطور العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وشطري اليمن حتى 2014، وتحت عنوان فرعي "العلاقات خلال الحرب الأهلية اليمنية"، يقول الكاتب إنه "بعد اندلاع النزاع المسلح في اليمن، انقطع التعاون الثنائي بين البلدين، باستثناء مجالات تدريب الكوادر الوطنية (يدرس حوالي 1.5 ألف مواطن يمني في روسيا الاتحادية). وبسبب تدهور الوضع في صنعاء قررت موسكو في ديسمبر 2017 تعليق الوجود الدبلوماسي الروسي في اليمن مؤقتًا"، نركز هنا على ديسمبر 2017.
لقد تقلصت الاتصالات بين البلدين بعد 2014، "في إطار اللجنة الحكومية الدولية الروسية اليمنية للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني (التي أُنشئت عام 1991). ولم يجتمع رئيساها المشاركان إلا في سبتمبر 2024، إذ تم التوصل إلى اتفاق لعقد الاجتماع الأول للجنة عام 2025، (طبعًا لم يعقد الاجتماع حتى الآن). وتواصل روسيا الاتحادية تقديم المساعدات الإنسانية لليمن، سواءً بشكل مباشر أو عبر المنظمات الدولية، ولا سيما من خلال برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة". ويتلخص الموقف الروسي مما يدور في اليمن وفقًا لتصريح سيرغي لافروف بعد لقائه وزير الخارجية شايع محسن، في أغسطس 2024، أن "روسيا تؤيد استئناف جهود الوساطة التي تبذلها دول الشرق الأوسط والأمم المتحدة لحل الوضع في اليمن". وموسكو لا ترى جدوى من التعاون حاليًا مع بلد مضطرب رهين الأزمات والاحتراب المتكرر، إلا بعد التوصل لتسوية. وكما صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عند لقائه مع رئيس الوزراء أحمد بن مبارك في فبراير 2024، "يمر بلدكم بفترة عصيبة للغاية مرة أخرى. نحن مهتمون بالمساعدة في التغلب على الصعوبات القائمة، والتوصل إلى تسوية، ومواصلة علاقاتنا الثنائية وتعاوننا في القضايا الإقليمية والدولية".
لقد زار عبد ربه منصور موسكو في أبريل عام 2013، وكما يبدو لم يتم تزويد هادي بالمعلومات الكافية حول مدى التغييرات التي طرأت على السياسة الروسية، وأنها أصبحت أكثر ميلًا للحديث عن المصالح والمنافع، وأن الأيديولوجيا لم تعد معيارًا لعلاقتها بالدول. ولم تثمر الزيارة عن شيء مما كان يتوقعه اعتمادًا على العلاقة القديمة بين اليمن الديمقراطية والاتحاد السوفيتي. كما علمنا من بعض المصادر حينها أن هادي أراد من الروس دعمه عندما دخل مع الرئيس صالح في صراع حول زعامة المؤتمر الشعبي العام، لكن الروس فضلوا عوضًا عن ذلك تقديم النصيحة لهادي بتجنب الانزلاق في هذه الطريق، فكانت القطيعة، وكان ما كان بعد ذلك.
لقد تصرفت روسيا بصورة محايدة، ولم تنخرط في الصراع عكس بقية رعاة المبادرة الخليجية، وبرأي صمويل راماني، طالب الدكتوراه في العلاقات الدولية بكلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، فإن روسيا قد حسنت صورتها بجهودها "لتعزيز الحوار في اليمن كطرف محايد وبنّاء. ومن شأن المزيد من المساهمات في استقرار اليمن أن يُعزز مكانتها في مجلس التعاون الخليجي، ويفتح لها آفاقًا جديدة للاستثمار وعقود الأسلحة مع هذه الدول الغنية"، فاستقرار الوضع في البلاد وفقًا لراماني سيتيح لروسيا "فرصةً لإنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، مما سيزيد من إمكانية الوصول إلى الطرق التجارية المربحة عبر مضيق باب المندب".
وتبرز وجهة نظر تشجع "جهود الوساطة الرامية إلى إنشاء منتدى محايد للحوار بين الفصائل بقيادة روسية من شأنها أن تُكمّل المحادثات التي تدعمها الأمم المتحدة، وتجعل من موسكو طرفًا لا غنى عنه في حل صراع رئيسي آخر في الشرق الأوسط"، وهذا لا يرضي بعض الأطراف المنضوية في أزمة اليمن.
يعتقد بعض المراقبين أن روسيا في وضع مثالي لقيادة مبادرة وساطة موازية في اليمن، فهي القوة العظمى الوحيدة التي تحافظ على علاقات وثيقة مع جميع أطراف الصراع الرئيسية، بما في ذلك الحراك الجنوبي، ولها مصلحة في استقرار الوضع في اليمن. وبالرغم من اعتراف روسيا بالشرعية، إلا أنها امتنعت عن دعم قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 الصادر في أبريل 2015، والذي وصف الحوثيين بـ"منتهكي السلام"، وقد استضافت ممثلين عن الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي في موسكو لإجراء محادثات دبلوماسية، كما استقبلت فيه هادي وبن مبارك والعليمي وطارق صالح وغيرهم بمختلف صيغ التمثيل. ووفقًا لرأي آدم بارون، الزميل الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، في مقال له بعنوان "الحرب المنسية: هل تتغير السياسة الأميركية تجاه اليمن؟"، نشر على موقع "نادي فالداي"، فإن ذلك "سمح لموسكو بإظهار نفسها كطرف محايد في الصراع اليمني. وقد تعززت صورة روسيا كطرف منخرط، ولكنه محايد وبنّاء، بفضل جهودها الناجحة لتخفيف التوترات بين الفصائل اليمنية الجنوبية المتنافسة، واعترافها بانقسام اليمن على أسس مناطقية وطائفية".
وحتى نقترب أكثر من الرؤية الروسية يمكن الاستعانة بمقابلة أجرتها الفضائية اليمنية في مطلع سبتمبر 2014، مع السفير الروسي في صنعاء. وضع المختصون عن اللقاء سؤالًا يرمز للفهلوة أكثر من السياسة، إذ سأل المذيع السفير: يبدو أن بيان مجلس الأمن الدولي غير مُلزم، فكيف يُمكن أن يُساعد في حل الأزمة في اليمن؟ ولا نعرف كيف توصل لهذا الاستنتاج، وقد رد السفير بأن "جميع قرارات مجلس الأمن الدولي، بنوعيه -البيانات والقرارات- مُلزمة. أمرٌ آخر هو أن للقرار معنىً أكثر أهمية. لكن كليهما قراراتٌ صادرة عن مجلس الأمن الدولي، ويُعبّر عن موقف المجتمع الدولي بأسره. وحتى الدول والأحزاب والمنظمات والأفراد الذين لا يوافقون عليه، مُلزمون بالامتثال. هذه هي مبادئ القانون الدولي". وحول التدخل الأجنبي في الأزمة رد السفير بضرورة أن يأتي الحل من الداخل، "لا يمكن في أي بلد في العالم حل المشاكل الخطيرة بإملاءات من الخارج".
يقرر السفير أن بلاده "لا تُقسّم اليمنيين إلى مُحقّين ومُخطئين، مُذنبين وغير مُذنبين، رابحين وخاسرين. مهمة روسيا الرئيسية هي المساعدة في حل النزاع".
وفي ردوده يشير السفير إلى معضلة لم تتمكن كل الحكومات اليمنية من تجاوزها، وهي المعضلة المتعلقة بالمساعدات، وأن الأمر لا يتعلق بالمانحين وحجم المنح المقدمة، إن المشكلة "تكمن أيضًا في عدم قدرة الاقتصاد اليمني على استيعاب مساعدات المانحين بسرعة في إطار مشاريع التنمية ذات الصلة".
وفي ما يخص العلاقة الروسية اليمنية، أكد السفير اختفاء الأساس الأيديولوجي في علاقة روسيا "خلال الحرب الباردة والمواجهة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، كانت لدينا أهداف جيوسياسية في جنوب اليمن. وقد اختفى الأساس الأيديولوجي لاستعادة أية مصالح خاصة لروسيا في الجنوب. لقد أصبح العالم الآن متعدد الأقطاب، على الرغم من أن بعض الدول تسعى إلى جعله أحادي القطب. آمل حقًا ألا يحدث هذا، وأن تصبح "الحرب الباردة" شيئًا من الماضي".
ويؤكد كيريل سيمينوف، الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، أن روسيا تستطيع، من خلال اتصالاتها مع العليمي، تأكيد اهتمامها بالصراع اليمني. ولكن الخبير يقدم توصية ضمن فريقه للقيادة الروسية مفادها "أن المجلس الرئاسي -الذي يرأسه العليمي- ليس هيكلًا موحدًا، بل يتألف من مجموعات متناحرة كامنة، تدعمها تشكيلاتها المسلحة الخاصة". وهذه المعضلة التي يقررها سيمونوف ليست الوحيدة في العلاقة مع الأطراف اليمنية فالعلاقات مع الحوثيين كما يقول "ليست دائمًا سلسة"، حتى إن وزير الخارجية سيرغي لافروف أدلى بتصريحات حول صعوبة تلك العلاقة. ويشير الباحث في معهد الدراسات الشرقية غريغوري لوكيانوف، إلى أن روسيا "تحافظ على اتصالاتها مع الحوثيين بالقدر الضروري تمامًا، وهذا يتعلق بضمان سلامة الشحن الروسي في منطقة البحر الأحمر، مضيق باب المندب"، وأنها "كانت دائمًا على استعداد لتسهيل تسوية الصراع في اليمن، بصفتها عضوًا في مجلس الأمن الدولي، ودولة ذات خبرة دبلوماسية واسعة في هذه المنطقة. تتمتع روسيا بعلاقات سياسية قوية ومتساوية مع الأطراف اليمنية. فبالإضافة إلى الحكومة والحوثيين، يشمل هذا أيضًا المجلس الانتقالي الجنوبي"، لكن هذه العلاقة لا تشمل جماعة الإخوان المسلمين لأنها مصنفة على قائمة الإرهاب الروسية.
وحسب رأي مراد صادق زادة، رئيس مركز الشرق الأوسط لدى أكاديمية العلوم الروسية، فإن روسيا "لا تعتبر العليمي ممثلًا للطرف الأقوى من الأطراف اليمنية، ولكنه "الأكثر شرعية من وجهة نظر الاعتراف الدولي الحالي"، وهذا أمر نسبي ومتغير كما تبين الأحداث. وأن زيارة العليمي إلى موسكو ترتبط "بحقيقة أن اليمن يمر اليوم بأزمة إنسانية واقتصادية حادة، يأتي الغذاء على رأسها".
أخيرًا، لم يكن بوتين بحاجة لتذكيره بماضي العلاقة اليمنية الروسية. بوتين بحاجة إلى مواقف وإلى إجابات صريحة عن تساؤلات، خصوصًا في هذه الظروف التي يمر بها البلدان الآن. يريد معرفة ما تريده أطراف "الشرعية" من روسيا؟ لماذا؟ متى وكيف؟ وما المقابل الذي يمكن أن تقدمه "الشرعية" لروسيا الآن على وجه التحديد؟ وما هي قدراتها الواقعية في ما يخص الاحتياجات الروسية؟ كما نرى أمامنا لا شيء بالمجان في عالم اليوم.
 
ماذا نريد من علاقاتنا الدولية؟
 
تحتاج البلاد إلى إعادة تقييم علاقاتها مع مختلف الدول، وبنائها وفقًا لمقتضيات المصالح الوطنية أولًا -وليس على أساس احتياج النخب الحاكمة- ثم وفق ما يليها من أولويات على الصعيد الخارجي. ذلك أنجع من الركون إلى الوهم.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً