صنعاء 19C امطار خفيفة

"سيد المقاومة" يدفع روحه ثمنًا للارتباط بغزة!

2024-09-28
"سيد المقاومة" يدفع روحه ثمنًا للارتباط بغزة!
حسن نصر الله صورة أرشيفية قبل نهاية الألفية (مواقع الحزب)
  • عرض عليه سياسي يمني متحمس مد المقاومة بمقاتلين فقال إن الموساد سيرصدهم فورًا

  • استفاد من الوجود السوري بالتفرع للمقاومة في الجنوب تاركا شؤون بيروت لأمراء التقاسم المرضي عنهم سوريًا

  • في فندق الكارلتون قال لي جارالله عمر إنه أول من سيتم اغتياله عند أول أزمة! 

  •  كان قادة ومفكرون اسلاميون يلتقون خصومهم القوميين واليساريين في العالم العربي لأول مرة في بيروت

  • شيئًا فشيئًا دفع نصرالله ثمن اصطفافه في جانب نظام الأسد ففقد بريق "سيد المقاومة" لصالح تكريس موقعه كأحد ركائز النظام الإيراني في المنطقة

رأيت حسن نصر الله من قرب مرتين في أكتوبر 1997. سافرت لأول مرة في مشاركة خارجية مندوبًا لجريدة "الوحدوي"، لتغطية فعاليات "المؤتمر القومي الإسلامي" في بيروت. كان الوفد اليمني إلى المؤتمر يضم شخصيات سياسية رفيعة بينها يحيى المتوكل (مؤتمر شعبي) وعبدالوهاب الآنسي ومحمد قحطان (إصلاح) وجار الله عمر (اشتراكي) وعبدالملك المخلافي وعبدالقدوس المضواحي (ناصري) وإبراهيم الوزير (اتحاد القوى الشعبية) ومحمد المقالح (حزب الحق)، شارك أيضًا آخرون بينهم عبدالرقيب منصور الدبلوماسي الحالي في السفارة اليمنية (مصر). 

نزلنا في الكارلتون في الروشة. وأتاحت لي تلك المشاركة التعرف عن قرب على جار الله عمر، إذ إنني فوجئت في الريسبشن بأنه اقترح أن أتشارك معه في الغرفة لتقاسم الكلفة، وقد أتاح لي ذلك خوض نقاشات معمقة معه في مستقبل الحياة السياسية في أعقاب انتخابات أبريل 1997 التي قاطعها الحزب، وقوله المباغت لي، كمن يقرأ مستقبله، إنه يعرف تمامًا أن اسمه في صدارة قائمة الذين سيتم اغتيالهم عند أقرب انعطافة في اليمن! وهو القول الذي عاد ليطرق سمعي بعد 4 سنوات صباح تم اغتياله في صنعاء في افتتاح مؤتمر الإصلاح، في جريمة نقلت في بث حي!

***

كان، تلك فترة، تكريس زعامة حسن نصر الله، فالحزب تحت قيادته كان يستثير إعجاب الملايين في العالم العربي، وهو يوجه الضربة تلو الأخرى لإسرائيل في الجنوب المحتل، وأشهرها الكمين الخطير الذي أمكن فيه للحزب قتل 16 عسكريًا من قوات النخبة.

كذلك تم ترتيب لقاء للوفد اليمني بحسن نصر الله في معقله (الضاحية الجنوبية). وقبيل اللقاء بنصف ساعة وصلنا بحوالي 4 سيارات إلى الضاحية. ثم عبر عملية تمويهية تم إنزالنا أمام عمارة من 7 أدوار، وفي المدخل تم نقل الزوار على دفع إلى دور (غير معلوم)، وبعد تفتيش دقيق تم أخذ كل ما يمكن أن يمثل شبهة لاختراق، وقد أثار دهشتي أنهم اعتذروا عن عدم السماح لي بالدخول بالكاميرا، مع التأكيد بأنهم سيوافونني بها في الداخل (غرفة اللقاء).

في الغرفة (وهي أقرب إلى أن تكون قاعة صغيرة وضيقة) جلس حسن نصر الله في الصدارة، وتوزع الوفد اليمني على الجانبين، وجلس الصحفي الوحيد في آخر كرسي في اليسار، ينصت باهتمام.

أذكر من ذلك اللقاء انبهار أغلب أعضاء الوفد بشخصية أمين عام حزب الله، وقدرته الفائقة على عرض أفكاره.. وقفشاته! فمثلًا عندما عرض أحد المشاركين بحماس مد المقاومة اللبنانية في الجنوب بالمجاهدين من اليمن (وخارج اليمن)، اعتذر نصر الله عن عدم قبول هذا العرض الكريم، لأسباب تتعلق ببيئة المقاومة في الجنوب، وقال إن مخابرات العدو ترصد الجنوب ليل نهار، ولديها عيون في كل مكان، وسيسهل عليها الوصول لخلايا الحزب لمجرد رصد أشخاص أغراب في أية قرية. وزاد أن مقاتلي الحزب هم من أبناء الجنوب، لا يتميزون في الشكل والملبس والسلوك عن مجتمعهم المحلي. قال باسمًا إنه تلقى عرضًا من فصيل جهادي في أفغانستان بالمشاركة في جهاد الصهاينة، فاعتذر لهم، لأن الإخوة هناك متمسكون بلحاهم، وهذه وحدها كفيلة بكشف المقاومة في كل مكان من لبنان.

تحدث نصر الله عن علاقة الحزب بسوريا، وقال إنها ليست على ما يرام دائمًا؛ فالحزب يهمه الاستراتيجي في هذه العلاقة، وهو مقاومة الاحتلال، ويقبل الغبن الذي يلحق به في سياسات سوريا في لبنان، ضاربًا مثلًا في نقطتين: سوريا وهي تقرر الأوزان في البرلمان تمنح الأفضلية الأولى لحليفتها حركة أمل، وتضيق حصة حزب الله إلى الحد غير المعقول. وسوريا حددت القنوات التلفزيونية المسموح لها بالعمل من داخل لبنان في حلفائها، في ترتيبات ما بعد الطائف، وكان يقصد قنوات المستقبل وإل بي سي وغيرهما، ورفضت الترخيص لقناة باسم الحزب (المنار).

 بقيت أسبوعين بعد اختتام المؤتمر لإعداد تقارير من بيروت وصيدا. خلالهما رأيت ما لم تظهره قاعات المؤتمر وأحاديث القوميين والإسلاميين في أول لقاء يجمعهم لمناقشة "ما الحل؟" لصراعاتهم الوجودية منذ منتصف الخمسينيات.

كانت بيروت عاصمة الطباعة العربية قبل عقود، لكن الحرب الأهلية ثم الاحتلال الإسرائيلي للبنان وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من ساحة لبنان جنوبًا إلى صنعاء وعدن، وغربًا إلى تونس، كل ذلك خلق قواعد جديدة داخلية وفلسطينية، حيث النفوذ لحلفاء سوريا والسعودية، فيما التغلغل الإيراني يزداد قوة مع تأسيس حزب الله (العقائدي) ونفوذ حركة أمل المتزايد كممثل رسمي للشيعة في النظام اللبناني المؤسس على التقاسم الطائفي بين المسلمين والمسيحيين، والمطور على أساس التوازن بين القوى الثلاث الكبرى (موارنة، سنة، شيعة)، والذي اكتسب اعترافًا رسميًا باتفاق الطائف في 1989.

***

كانت تلك بداية ظهور حزب الله كقوة متنامية، خصوصًا مع انصرافها تدريجيًا عن سلوكها العقائدي المنفر للبنانيين، باتجاه التركيز على مقاومة إسرائيل. 

والحاصل أنني عرفت أن الصورة ليست وردية تمامًا.

وأعلن الحزب أن أمينه العام سيعقد مؤتمرًا في مقر نقابة الصحافة اللبنانية في بيروت. حضرت المؤتمر.

كان التفتيش أكثر صرامة، فالحضور صحفيون وصحفيات من صحف وقنوات تلفزيونية لبنانية وغير لبنانية. وهكذا استغرق الأمر وقتًا. ثم في القاعة المكتظة رفض فريق حماية نصر الله تشغيل المكيفات أو فتح الشبابيك. وهمست لي زميلة لبنانية أنهم يخشون اغتياله بغاز سام!

وفي المؤتمر أضحك الحضور محمد بعلبكي (نقيب الصحافة) إذ قال: هناك رضا شعبي عن الحزب، بس الأفضل لو أنه غير اسمه!

رفيق    الحريري (صورة أرشيفية وكالات).jpgفي مطلع الألفية انسحبت قوات الاحتلال من الجنوب، فكان ذلك نصرًا ساحقًا للحزب، كرس مكانة حسن نصر الله كـ"سيد المقاومة"، لكن تلك المكانة بدأت تهتز عقب اغتيال رفيق الحريري في فبراير 2005، ثم في الانسحاب السوري تحت ضغط الشارع والخارج، فغاب "الاستراتيجي" في علاقة الحزب بسوريا، وحضر التكتيكي الذي أغرق الحزب في تفاصيل المشهد السياسي، حيث حضر بقوة تعويضًا عن الفراغ السوري، وكذلك بدأ حسن نصر الله يفقد جزءًا من قاعدة مؤيديه في لبنان وفي العالم العربي.
***

في عام الربيع العربي الذي امتد من تونس واقترب رويدًا من مصر فاليمن، بدا الرئيس السوري واثقًا وهو يؤكد أن نظامه غير قلق، فالثورات الشعبية تنحصر في البلدان التي أقامت علاقات مع تل أبيب. لكن الربيع امتد إلى دمشق، وحصل ما كان يخشاه الحزب؛ ثورة شعبية في سوريا، شيئًا فشيئًا تحول "سيد المقاومة" المحبوب عربيًا إلى محض "زعيم طائفي" يدافع عن مصالح إيران في المنطقة. كانت هذه الصورة الجديدة تتأكد مع تحول الربيع إلى خريف دائم، خصوصًا في سوريا التي تحولت إلى ساحة صراع دولي وإقليمي استبيحت فيها كل المحرمات!

في 7 أكتوبر 2023 أطلقت حماس في غزة "طوفان الأقصى"، فبادر حزب الله في اليوم التالي إلى ما سماه "إسناد" غزة، وبدأ الحزب يستعيد قليلًا من قاعدته في لبنان والعالم العربي. لكن العالم العربي الذي كان قبل 2011، كان قد أنهك بالاقتتال الداخلي والإقليمي، بالطائفية والمذهبية والقبلية في غير بقعة من المغرب إلى اليمن، في تصديق لاحق لمطلب إسرائيلي قديم؛ "شل القلب وشد الأطراف".

كذلك انتهت حياة "سيد المقاومة" كما سلفه في قيادة الحزب، والعشرات من قادة حركات المقاومة الفلسطينية. قتل في عملية اغتيال نفذها "العدو"، لا غاضب لبناني ولا ثائر سوري، لا ليبرالي عربي ولا إسلامي سني!

لم تقتله غارة إسرائيلية صادف إلقاءها في الضاحية، بل 80 قنبلة دكت الضاحية بتوجيه من عدوه وعدو الشعب الفلسطيني بنيامين نتنياهو!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً