إذا علمت أن المواطنين الألمان إبان سقوط النازية واقتحام الحلفاء لبرلين، سارعوا إلى كل المتاحف ودور الآثار الألمانية، وانتزعوها إلى بيوتهم ومخابئهم الخاصة خوفًا عليها من الحرق أو النهب، وبادروا بعد الحرب إلى تسليمها طواعية، وإعادتها إلى أماكنها اعتزازًا وحرصًا على إرث الشعب الألماني وهويته الحضارية، مقابل ما فعله العراقيون وجنود الغازي الأمريكي بريمر إبان اقتحامهم لبغداد عام 2003م، من نهب وتدمير لمآثر الحضارة البابلية والسومرية والإسلامية، ولم يعد من المنهوب منها بعد الحرب شيء، إلا ما حملته السيدة العظيمة مديرة المتحف العراقي إلى بيتها، وعادت به بعد الحرب إلى مكانه، وعيناها تذرفان دمعًا على ما دمر وما ذهب ولم يعد، فهل يوجد في اليمن من يشبه الألمان، أم من يشبه جنود بريمر؟
فماذا لو علمت بآخر قصص تجار آثار اليمن وحماتها من أهلها في جبل العود عاصمة الدولة القتبانية في تسعينيات القرن الماضي، والتي خرجت منها أكبر وأهم مجموعة أثرية من مكان واحد في تاريخ التنقيب عن الآثار اليمنية، وكيف "تهاترتها" أيادي الشر من غزاة الفيد في الداخل من جلاوزة سنحان و"قناديل" مران، وعلى رأسهم محافظ المحافظة وقتها عبدالقادر هلال، والظنين ومهدي مقولة، الذين استولوا على الجزء الأكبر من المكتشف مقابل ما تبقى مما استطاع أهالي المنطقة الدفاع عنه والاحتفاظ به في مكانه!
وبعد أن نجحت الجهود الشعبية بإقناع الجانب الرسمي وقتها ببناء متحف محلي مجاور لمآثر وآثار العاصمة القتبانية، وإيداع ما تبقى فيه، وإعلان المنطقة كموقع أثري تاريخي من الدرجة الأولى.
غير أن الرياح قد سارت بعد ذلك بما لا تشتهي السفن، إذ لم يعتمد لذلك المتحف والقائمين عليه "حراسة وإدارة صيانة"، أي حقوق وظيفية أو معيشية ثابتة ولا إدارة وصيانة للمبنى، وبمرور الوقت تفاقم العوز بالقائمين على الحراسة والإدارة من أبناء المنطقة بما لا يقوون على احتماله، وآل الخراب والتدهور بمبنى المتحف نفسه من الأمطار وعوامل التعرية، ما جعل المجموعة الأثرية القيمة عرضة للتلف، وهو ما اضطر القائمين على الحراسة والإدارة من أبناء المنطقة بلا أدنى مقابل ولسنوات عديدة، إلى توزيع القطع الأثرية في ما بينهم كأمانات، وإغلاق مبنى المتحف المتهاوي، بعد التشاور مع عقال ووجهاء المنطقة، حتى يأذن الله والجهات المعنية بحل.
واليوم وقبل أيام فقط، أُبلغنا أن مكتب الآثار في محافظة إب قد كلف بعض الأشخاص بالنزول إلى المنطقة، والبحث عن متعهدي القطع الأثرية، وتسليمها لنقلها إلى صنعاء أو إلى حيث لا رجعة على الأصح كما حدث لما قبلها، ولكن الرجال الطيبين والمؤتمنين عليها رفضوا ذلك، وبالتشاور مع عقلاء ووجهاء ومشايخ المنطقة، كان الذي أجمعنا عليه هو رفض نقل الآثار من منطقتها، وأن الحل الأسلم هو حصر القطع الموجودة عند كل شخص، وتصويرها، وتوثيقها في سجلات خاصة، كخطوة أولى، ووضع دراسة لإعادة صيانة مبنى المتحف وتسويره مع ملحق للإدارة والسكن، باعتبار أن منطقة جبل العود خالية من الحي تمامًا، والتزام الجهات المعنية والمحافظة بعمل الصيانة وإعادة القطع إلى مكانها في المتحف.
وإذا لم تتمكن الجهات المعنية من تأمين حقوق الحراسة والإدارة سابقًا ولاحقًا، فيمكن إبرام عقود عمل حتى تحل مشكلة المرتبات والمعاشات عمومًا.
مع استعداد أهل المنطقة في العود وغيرها للقيام بالمشاركة المجتمعية سواء في صيانة المتحف أو مكافأة الحراسة والإدارة، وهذا هو ما تم الاتفاق عليه، وشكرًا لأهلنا من كل المؤتمنين على الآثار، وعلى موقف الجميع من الدفاع عنه وهوية المنطقة التاريخية والوطن عامة، وما اليمنيون الشرفاء بأقل حبًا لوطنهم وتاريخه من الألمان، ولا تجار الآثار اليمنية ولصوصها بأقل سوءًا من جنود بريمر.