محمود محسن سيف المنيباري، المعروف باسم محمود أربد.. علم في الدراما، الإذاعية منها بالذات.. وأخرج للإذاعة العديد من المسلسلات، وكان فيها مبدعًا لم يتفوق عليه هناك غير محمد سعيد منصر، المخرج الإذاعي المتألق متعدد المواهب كمطرب، وكمذيع، وكممثل، وأيضًا كمخرج!
بلغ صيت الأربد وشهرته أسماع إخوتنا في جمهورية الشمال، وكانوا يتساءلون: من هو هذا الأربد؟ ظنوا أنه خبير عربي في الإخراج والمسرح من عمان.. فاستوردوا بدورهم مخرجًا فلسطينيًا.. وآخر مصريًا، لتطوير المسرح والتمثيل عندهم!
رجول حمام.. رجول حمام.. هكذا يتغزل الأربد بالقات إذا صادف نوعًا جيدًا منه.. يجلس في المبرز بطريقة جميلة تلفت النظر لأنها مريحة له.. وغريبة على الناظر إليه.. يلف رجلًا فوق رجل كأنه يحتضنها، فيبدو مثل تمثال مكتمل لجوتاما بوذا!
محمود محسن سيف المنيباري( الصورة من إرشيف الكاتب)
طوال حياته لا أذكر مرور يوم عليٌ لم أقابله فيه، في بيته، في النادي، في المقهى، في دار الإذاعة، وفي الشارع.. رجول حمام.. يحب القات كثيرًا، ولضيق ذات اليد لا يحصل منه إلا على أنواع رخيصة مليانة شطن كما يقول.. لكنه إذا تيسر حاله، يحتفي بالقات الجيد، ويغني له: رجول حمام.. رجول حمام.. لكنه كبشري فيه وفيه.. وسأتجنب بعض ما فيه، وأختار ما فيه بطريقة التقاط الكرز كما يقال: Cherry picking.. ولا جناح عليّ، فالراحل كان من ألصق أصدقاء العمر.. كان فنانًا جيدًا رائعًا مبدعًا.. وإنسانًا غير ذلك.. وله العذر في وضع صعب قاحل مر به، وأنجب العديد من الأبناء.. 9 على ما أذكر، كلهم ذكور، بينهم بنت واحدة لطيفة، اسمها أميمة.. في ذلك الشقاء ربى أولاده بمساعدة أمه الجليلة التي كانت تعمل داية، أو أية في مستشفى التوليد.. وعاصر الحياة وعصرته.. لكن المرح والنكتة والكوميديا لم تكن تفارق طبعه الانبساطي الجميل! ولا أنسى، كما لن ينسى كل من عرفه، براعته الشديدة في الطبخ، لدرجة أننا وليناه شؤون كانتين نادي الفنانين، فأبدع في إدارته وتشغيله حين كان لنا فيه ثلاجات وطباخات وخيانات وشوايات.. وباختصار، حين كان لنا نادٍ أصلًا وأساسًا.
يتطرف أحيانًا بطريقة فجة في زجر الأولاد والبنات المتقدمين لعضوية فرقة التمثيل، فينصرفون، وتظهر مواهبهم عند غيرنا نتيجة لسرعة أحكامه! فيعيد النظر بعد فوات الحيلة.. أدى تزمته الذي لا لزوم له، إلى انقسام فرقتنا المسرحية، وخروج نصفها إلى مكان آخر، وباسم آخر في المعلا.
رجول حمام.. رجول حمام.. يا أربد أنا ما أحبش التمثيل على المسرح.. شوف غيري.. هكذا طلب منه عبدالله شمسان، أحد أعضاء فريقنا التمثيلي.. فرد عليه أربد ساخرًا: ليش ماتشتيش تمثل في المسرح.. بلكي تشتي تمثل في السينما مع حسين فهمي؟
تمر على الأربد سحابة خصام مع المخرج محمد مدي.. ثم يتصالحان عند المصلحة المادية ولا يختلفان، للمدي فضل على أربد في الإخراج الإذاعي.. لكن كل شيء بثمنه.. وقتها رسم صديقنا الفنان المبدع محمد عبدالمنان، لوحة كاريكاتيرية تصدر فيها المدي اجتماعًا لنا كلنا، وأولنا الأربد.. وكتب تعليقًا عليها ولا أجمل منه، يقول: اللص.. والكلاب! وأضحكتنا كثيرًا أيام كان المدي يأتينا إلى مقهاية علي غام في المسافرخانة، ويلقطنا بسيارة الإذاعة من هناك للتمثيل في الإذاعة.. كان المدي متمرسًا ببراعة في التأليف الدرامي، لدرجة أنه يواصل الكتابة حتى داخل استديو الإذاعة.. قال مرة: أنا زحفت من الكتابة! قلنا له: فعلًا هذا كد وكدح ذهني مرهق.. لكنه قال: أيش من ذهني؟ أنا يدي وجعتني!
أصيب الأربد لأول مرة ببوادر ذبحة قلبية، وعند الدكتور نصحه بالراحة التامة، والسعي للعلاج في الخارج.. وسعينا في هذا الأمر.. وقتها كان العلاج في الخارج من شبه المستحيلات، وكان وزير الصحة في ذلك الوقت رجلًا من أتباع جبهة حوشي الشمالية المناوئة ظاهريًا لنظام صنعاء.. وتوالت الأيام.. وتواصل سعينا مع الوزير الحوشي حتى امتلأ ملف الأربد الطبي بالأوراق والتقارير الطبية بلا جدوى.. وذات يوم حزين شعر الأربد بالتعب والإعياء، لم يكن التزم الراحة حسب نصيحة الدكتور أبو بكر القربي، إذا لم أغلط في اسمه سهوًا.. كان الأربد يخرج برنامجًا في استديوهات الإذاعة في بناية البينو P&O،وكان أسانسير البناية معطلًا حين أراد الزملاء إسعاف الأربد للمستشفى.. فاضطروا إلى حمله إلى الخارج، لكنه فارق الحياة قبل الذهاب للإسعاف.. وتيمنًا بدوره العظيم في خدمة المسرح والدراما عمومًا، أطلق اسمه على واحد من استديوهات الإذاعة في البينو.. ومازال الاستديو، واسمه مكتوب عليه إذا كان لايزال باقيًا.. وإذا كان مبنى البينو نفسه باقيًا، ولم يرحل بعد رحيل محمود محسن سيف المنيباري المعروف باسم: محمود أربد.
وكلما شفت قات حَمار بيد أحد، أو حتى في السوق، تذكرت الأربد وهو ينشد: رجول حمام.. رجول حمام.
أربد
2024-05-25