في زحمة أخبار الخراب والقبح؛ فجأة تذكّرت الفنان القدير عبدالرحمن الحداد.
عبدالرحمن الحداد الذي يغنّي ليغني..
إنه غير محترف ولا هاوٍ
هكذا أصنّفه
ولكنه يغني ليغني.
هذا الصوت الخالد الذي ببُحة تجمع بين السهل والجبل والصحراء والشاطئ معًا.
يغني ليفتخر بأنه يغني غير منسجم مع قيم السوق وبالتسويق في الفن، وإنما يتشبّث بمزاجه الحر كلما اندلع بالصبابات التلقائية فيغني.
جاء كثيرون ومضوا، وبقي الحداد على مدى أكثر من أربعة عقود، من قلة يتفرّدون في اختلافهم، ورائحة التربة اليمنية الأصيلة التي تفوح من شجنه التصوّفي الوطني الراقي الذي يؤكده كل من عرفوه.
أليس هو سليل المتصوّفة الكبار؟
لذلك نجزم بأنه ينهل من الصوفية بساطته الشامخة كما يصل إلى جذوة الاستجلاء بوداعة ذات لا تتكرر، هي ذات عبدالرحمن الحداد الذي حدثني أحد أصدقائه القدامى، فقال: يجعلك تتشرّف بروحه الراقية التي تترقرق كالنبيذ وتتعتق كالنبيذ.
ولقد عُرف عبدالرحمن الحداد بأنه رجل جنتلمان في حياته العامة.. وهو بالفعل رجل محظوظ بالصداقات النقية في كل ربوع اليمن.
وإذ حدثني صديقي العماني، قبل سنوات، بأنه من الذين يسلطنون على الحداد، تفاجأت في مرةٍ بصديقي البحريني وهو يغني أغنية نادرة للحداد أيضًا.. أما صديقي الكويتي فهو من سميعة لون الحداد الثري.
والحاصل هو أن الحداد لطالما دافع عن الألحان اليمنية العريقة التي تتعرض للسرقة من قبل أوغاد وأغبياء، كما قدمها بشكل فاتن. فهو الذي أتقن وأبدع في أداء عيون الألوان الغنائية التراثية اللحجية والحضرمية واليافعية والصنعانية، بأصالة استثنائية تتجسد فيها روح اليمن الشاسعة والمتنوعة.
على أن الرجل الذي كان لسنوات مذيعًا مرموقًا، وصاحب طلة خصوصية في إذاعة وتلفزيون عدن: يمكن الخلوص إلى أنه الحضرمي العدني الذي يعتز بعشقه المبكر لصنعاء وتعز، ثم إن ذلك ما تجسده غنائياته الوطنية المتفوقة المتجذرة في وجداننا.
ويومًا ما قال العملاق أبو بكر سالم عن فناننا الكبير عبدالرحمن الحداد: كلهم يغنون.. الدنيا كلها صارت فنانين، والفنان الحقيقي هو من يتميز ويبرز وسط هذه المعمعة.
يبقى من المهم الإشارة هنا إلى أنه كان من الطبيعي أن تتعنقد في شجرة الحداد الفاتنة ابنته الفنانة التحديثية رنا الحداد التي صارت على مستوى اليمن والجزيرة والخليج والعالم العربي أيضًا، تسير في دروب التألق بثقة وباتزان وبوعي صادق، بعيدًا عن الانسياق وراء الغثاثة أو البهرجات الزائفة السريعة، ما يجعلنا نثق بمشروعها الذي لا بد أن يترسخ يومًا ما، ومن دون رضوخها، كالعديد من فنانات اليوم، لتلك الأضواء (الإنتاجية) التي تخدع غالبًا، أو تحرق من لا تتأسس موهبته على الامتلاء الداخلي المصقول!
[email protected]
جاء كثيرون ومضوا وبقي الحداد
2024-05-06