الوطن.. الإنسان! (5)
* إلهام مانع
من بين المواد التي أدرّسها في جامعة زيورخ مادة "سياسات شبه الجزيرة العربية".
عنوان المحاضرة الثانية فيها هي "التاريخ والأسطورة"! محورها هو عبارة واحدة: "التاريخ يكتبه البشر".
والتاريخ، عزيزتي الشابة عزيزي الشاب، مشكلتنا اليوم.
كيف نقرأ التاريخ؟
في محاضرة "التاريخ والأسطورة"، عادة ما أقرأ على طلابي وطالباتي عبارة: "الأسطورة تقول لنا إن الكونفدرالية السويسرية تأسست عام 1291، لكن الحقائق التاريخية تقول لنا إن سويسرا كدولة بين الدول الأوروبية لم تظهر إلى الوجود فعلاً إلا في القرن الخامس عشر".
وهذه العبارة ليست عبارتي بل كتبها الباحث التاريخي السويسري المعروف أورليخ إيم هوف في كتابه "أسطورة سويسرا: الهوية، الأمة، التاريخ، 1291 – 1991".
أمهد لطالباتي وطلابي بهذه العبارة لأن تاريخ شبه الجزيرة العربية كتُب أيضا بصورة تعكس الرؤية الرسمية للدولة، وهذه الصورة لا علاقة لها في أحيان كثيرة بحقائق ما حدث فعلاً على أرض الواقع.
لو قرأتما تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث كما يُدرس في الكتب المدرسية، ستجدان أن الهدف منه هو أن يخلق علاقة ارتباط بين الحاكم والمحكوم، ولكن وفقاً لرؤية محددة: رؤية تصر على أن التحالف القائم بين أسرة آل سعود الحاكمة وأسرة آل الشيخ محمد عبدالوهاب كان ضرورياً لإنقاذ سكان أقاليم المملكة من التردي والضياع والزياغ، عن طريق الإسلام "الصحيح".
هذه القراءة للتاريخ تبرر لما حدث بعد ذلك في بدايات القرن ال20، من غزو لمناطق الأحساء والحجاز ثم عسير ونجران، ولتأسيس المملكة أيضاً.
والسؤال هو، هل كانت أقاليم المملكة فعلاً تعيش في حالة الضياع هذه؟ دعونا نطرح السؤال بصيغة أكثر تحديداً، كيف كان حال منطقة الحجاز قبل ضمها إلى المملكة بعد حصار 1925 - 1926؟ كانت تحت الوصاية العثمانية، وكانت في الواقع قبلة للحجاج المسلمين من كافة أرجاء العالم، وكانت حاضرة مدنية. دعوني أكرر هذه العبارة من جديد: "كانت حاضرة مدنية". ولأنها كذلك ظلت إلى منتصف السبعينيات المقر الذي يضم السفارات والبعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية. ولأنها كذلك، كان أبناؤها (الذين مثلوا الفئة الأكثر تعلماً في المملكة) هم الكادر الإداري الذي بنيت عليه الدولة السعودية، إلى أن بدأت عملية نجدنة الإدارة في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز.
لم تكن وكراً لمشركين.
ولم تكن تعاني من حالة انهيار أخلاقي وديني.
التاريخ هنا يبدو ملفقاً وفقاً لرواية الدولة الرسمية، خاصة إذا اعتبرت ما حدث من مروعات في الأحساء على سبيل المثال "فتحاً" "ابتهج" به سكان الأحساء من الشيعة.
بالنسبة لهم، كانت نكبة.
والتاريخ هنا يصبح تعدياً على الإنسان، عندما يتعلم الطفل في مدرسته أن مذهب والديه، رافضي ضال كافر، يستحق من يؤمن به القتل.
بنفس النسق، تصر كتب تاريخنا اليمني الحديث على تسمية الحرب الأهلية التي حدثت في صيف عام 1994 على أنها حرب "انفصالـ".
"كانت حرب انفصال، لا حرباً أهلية". هذه هي الرواية الرسمية.
وتصويرها على أنها حرب تهدف إلى انفصال، يحولها مباشرة إلى حرب بين "حق" و"باطلـ". في حين أن القول بأنها كانت حرباً أهلية، يضعها في سياقها الطبيعي: حرب بين شريحتين في القيادة الحاكمة للدولة اليمنية الموحدة، اختلفا على أسلوب الحكم، وفلسفة الدولة، وتنازعا في الوقت ذاته على القوة والسلطة، ولم يثق أحدهما في الآخر منذ لحظة توقيع اتفاقية الوحدة، ولذا كانت الحرب تحصيل حاصل.
---
أقول لطلابي إنه إذا كان من الطبيعي لكل المجتمعات والدول أن "تختلق" تاريخها إلى "حدٍّ ما"، فإن المشكلة في شبه الجزيرة العربية أن هذا "الاختلاق" يمهد في الواقع "لهيمنة" فئة محددة في الدولة على باقي فئات المجتمع.
وهنا المعضلة.
أقول لطالباتي إن من يريد أن يدرس هذه المنطقة عليه أن يدرك حقيقة أساسية، وهي أن كل دول المنطقة (في شبه الجزيرة العربية) دول جديدة. حديثة النشأة. قد تكون مجتمعاتها قديمة، لكنها كدول لازالت جديدة، وإن هذه الجِدة، تفسر الكثير مما يحدث على أرض الواقع اليوم.
أقول لهن أيضاً إن هذه الدول منذ نشأتها وإلى يومنا هذا تواجه رؤيتين فكريتين؛ الأولى قومية عربية، تقول بوجود الأمة العربية، والثانية إسلامية عالمية، تقول بوجود أمة إسلامية، وكلتاهما لا تعترفان بوجود هذه الدول بحدودها الجغرافية. وإن هاتين الرؤيتين تمثلان في الواقع محور الأزمة التي تمر بها دول المنطقة: هل هي دول لها حدود جغرافية وسيادة، ويعيش فيها مواطنون ومواطنات متساوون أمام القانون؟ أم هي جزء من أمة، بلا حدود، تجمعها قومية أو هوية دينية؟
والمشكلة، أن كلتاهما لا تعترفان بمفهوم الإنسان، وحقوقه.
حقوقه.
كل منهما تضع أمام الإنسان تصنيفات وتضييقات تنسف مفهوم حقوق الإنسان الذي نعرفه اليوم من جذوره.
الفكر القومي العربي في كل تطبيقاته السياسية التي عرفناها في تاريخنا الحديث كان تجسيداً للحكم الشمولي.
والفكر الإسلامي في تطبيقاته السياسية وتصنيفاته الفكرية لا يعترف بحقوق وحريات الفرد، ويُّعرف الإنسان بأنه ذكرٌ مسلم!
ثم أذكّر طالباتي وطلابي بأن احتلال العراق للكويت دفع كل هذه الدول، ومعها دول المنطقة العربية الأخري، إلى مواجهة هذا السؤال.
الكويت أدركت أنها وإن كان بعض من مثقفيها يدعمون فكر القومية العربية، وبعض من ناشطيها يدعمون فكر الإخوان المسلمين، إلا أنها أولاً وأخيراً دولة لها حدود جغرافية، وأن هناك شيئاً اسمه الكويت بالفعل، حتى لو كانت كتب التاريخ لم تأتِ على ذكر اسم الكويت قبل 250 عاماً.
اليوم هي دولة ذات حيز ونطاق، يمثل التعدي عليه من دولة "عربية" او "إسلامية" احتلالاً.
كان اسمه احتلالاً، إذا كان لازال لدى البعض شك في ذلك.
ووقف مثقفو الكويت ومعهم ناشطو الإخوان كلهم جميعاً صفاً واحداً دفاعاً عن الكويت، دفاعاً عن وطنهم.
وأقول لهما إن بعض كيانات المنطقة ستظل مصطنعة هشة قابلة للانهيار طالما لم تقر النخبة الحاكمة فيها بأن خلاصها هو في الإيمان بالإنسان في أوطانها.
بالتعامل مع هذا الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، على أنه كيان راشد عاقل، له رأي، ويتمتع بحق الحرية والاختيار.
بالتعامل مع الإنسان في أوطانها على أنه مواطن يقف مع غيره من المواطنين متساوياً أمام القانون، بغض النظر عن هويته، دينية كانت، او مذهبية، أو عرقية، او لونية، أو نوعية (جندرية).
أقول لهما إن دول المنطقة لن تستمر، أكرر لن تستمر، طالما تظن أنها محصنة ضد الديقراطية وحقوق الإنسان.
فاعتمادها على دعم أقلية مذهبية أو قبلية يظل هشاً، وبقاؤها مرهون حتماً بدعم كافة شرائح المجتمع.
فالأحرى أن تبدأ بإصلاح نفسها، قبل أن ينقلب شعبها عليها، ويصبح الإصلاح ضمن إطار الدولة الواحدة مستحيلاً.
---
في المحاضرة الأخيرة من مادة سياسات شبه الجزيرة العربية، أودع طلابي وطالباتي بعبارة تحذير، أكررها كل مرة:
"ما قدمته لكما في هذه المادة هو قراءة من بين قراءات متعددة للتاريخ السياسي للمنطقة، وهي وإن اعتمدت على مناهج بحث علمية، إلا أنها تظل ملونة بالعدسة التي أستخدمها في هذه القراءة، عدسة حقوق المواطن والإنسان. ولأنها كذلك، فإنها قد تكون متحيزة، متحيزة للإنسان. فلا تأخذا ما درّسته لكما على علاته. لا تصدقاني! بل دققا، وشككا، ثم انقدا، ولعلكما تصلان إلى رؤية مغايرة لما طرحته في هذا المادة. كلاكما له عقل، استخدماه".
في نهاية هذه العبارة، أرى الدهشة في عيون طلابي وطالباتي، لكنها دهشة ممزوجة برغبة متجددة في الاستزادة المعرفية عن المنطقة.
دهشة الذي استفاق. كان يظن أن من أمامه يخرجُ من فمها الحق، وها هي تقول له: "لا تصدقني. الحقيقة متعددة، ابحث عنها في صورها المتعددة بنفسك. لا تنتظر مني أن ألقنك المعرفة. فدوري أن أقدم لك إطاراً، تبحث فيه أو خارجه، في النهاية، عقلك مادام منهجه علمياً سيكون الحكم"!
لم يكن غريباً لذلك أن مجموعات من طلابي وطالباتي عمدت إلى السفر في رحلات بحثية إلى المنطقة. أرادوا أن يعرفوها، ويكتشفوها بأنفسهم.
وفي الواقع، لا أظن أنهم كانوا سيرغبون في فعل ذلك، لو أن مضمون ما درسته لهم هو "كراهية المنطقة".
على العكس، في نهاية تلك المادة، يصبح واضحاً جداً، مدى حبي لهذه المنطقة.
أحبها إخوتي، أحبها.
تماما كما أحب لغتي. الرحم.
وهي جلدي، تلتصق بلحمي، أنا منها، لكني أختنق بواقع الإنسان فيها.
ولأني أختنق،
أنتقد.
< في المقال القادم أحدثكما عن الخلافة والإخوان. وسأحدثكما عن العلمانية. تلك التي أؤمن بها.
[email protected]
الوطن.. الإنسان! (5)
2010-03-09