في يوم من أيام العام الماضي، كنت رأيت صورة تجمع فقيد الوطن والصحافة اليمنية الأستاذ محمد المساح والصديق محمد هائل السامعي، بجوار منزل، وطرف أحد الحقول المتاخمة لسوق المركز بعزلة العزاعز مديرية الشمايتين، وبجانبهما ثلاجة للشاي.
ومرة ثانية شاهدت صورة أخرى جمعتهما مع المبدع الأديب الشاعر جميل منصور حاجب.
على نحو لا إرادي اتصلت بمحمد هائل الذي يمتلك عطارة، ويستثمر في تربية النحل بمدينة المركز الصغيرة القريبة من مدينة التربة على طريق تعز، وأبلغته أني مشتاق لرؤيته، ورؤية كل من الصحفي الأستاذ محمد المساح، والأديب جميل حاجب، ورد علي بأنه سوف يتواصل معهما لينسق موعدًا للالتقاء، وضرب الموعد يوم الخميس السابع من ديسمبر الماضي، واشترط أن نتغدى، ونجلس معًا.
بسبب زحمة الطريق وكثرة التنقل من سوق العين بمديرية المواسط إلى مدينة النشمة بمديرية المعافر، ومنها إلى مدينة المركز بالعزاعز بمديرية الشمايتين، اختل شرط الغداء، فقد تأخرت عن موعد الغداء، واتصلت بهم ألا ينتظروني عليه.
***
عند الساعة الثانية إلا ربعًا تقريبًا، وصلت عندهم، حيث كانوا جالسين في محل عطارة محمد هائل، وكانت الصدمة الأولى التي تلقيتها، ولكني لم أظهر أية علامة لهول الصدمة على سحنتي كعادتي عند اللقاء بعمالقة الإبداع، والوطنية الفذة، ليقيني أن لديهم ذكاء وفراسة وحساسية عالية منذ الوهلة الأولى لرؤيتهم، تمكنهم من استقراء ما ينطبع عنهم من معاناة أو غصص، وهموم وأحزان وخيبات الزمن التي طالتهم، في عيون وأوجه من يزورهم.
واريت الصدمة كعادتي برفع الروح المعنوية للمساح بعد عناق كل من محمد، وجميل حاجب، وأثناء عناقه أنشدت قائلًا:
ماتزال يا أستاذنا ذلك المساح الذي تعرفت عليه وجهًا لوجه، مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، لم يتغير فيك شيئًا، ماتزال شامخًا شموخ جبال هذه البلاد المنكوبة.
أربع ساعات كم تمنيت لو كانت أربع سنوات أو شهور أو أسابيع أو حتى أربعة أيام على الأقل.
ساعات أربع صرفت قليلًا منها مع زميل الحرف، وصديق فجرنا الصبي، جميل حاجب، وباقي زمن اللقاء مع صاحب "لحظة يا زمن".
عندما يكون الجلوس مع قامة صحافية يمنية مخضرمة وقلم إبداعي بحجم الأستاذ محمد المساح البسيط وهو العظيم، المتواضع، وهو الكبير قيمة، فإن كل ما خططت أن تتناوله معه خلال اللقاء يتلاشى، ويختفي، فلا تدري من أين تبدأ الكلام معه...؟
سيكون من العيب أن تسأل عن حالته أو صحته، وأنت تشاهدها أمامك تنهار ببطء دون هوادة من تتالي هجمات الزمان عليه بالتعب، والقهر، والتجاهل والتغييب، والنكران، والآمال الكبيرة، وضياع العمر، والعافية، وفقدان أعز الأشياء الجميلة إلى وعيه، وروحه ونفسه كابنه الذي اختفى في رمال الصحراء، وقبل ذلك كله فقدان الكيان الأعظم -الوطن- الذي وهبه كل شيء في حياته، ولم يكافئه بأي شيء.
سيكون من العيب أن تسأله عن شيء متصل بنتائج ما هو عليه، وما يريده أو يتطلع إليه.
وسيكون من العيب أن تسأله عن تاريخه الشخصي أو النضالي الوطني أو الصحفي المهني والإبداعي... لأن ذلك ليس له من تفسير سوى إما أنك جاهل بتاريخ اليمن المعاصر، ورجاهله وأعلامه الوطنيين، والمبدعين، وأنك لست أكثر من مدعٍ للمعرفة والثقافة، وزائف النضال والوطنية، أو أنك غبي كبير، وفي كلا الحالتين لا جدوى من أن يتحدث معك في أي شيء.
نعم احترت في تحديد أي الباب أو الأبواب التي يمكن الولوج منها إلى عوالم محمد المساح التي لم تكشف بعد رغم معانقته العقد الثامن من عمره، ورحل وكثير من عوالمه ماتزال موصدة كل الإيصاد.
***
ببداهته المعهودة لكأنه أدرك توهاني وحيرتي لتجاذب أطراف الحديث الذي كنت تائهًا فيه باقتراحات شتى كتأسيس إطار جديد يضم الأدباء والكتاب الصحافيين الذين نزحوا من صنعاء وغيرها من مدن اليمن، واستقروا في الحجرية ومدينة تعز، وترحيبه بالفكرة، وموافقته وجميل حاجب عليها، وهنا لمعت فكرة لجعله يتحدث عن نفسه.
الفكرة هي رؤيتي لنسخة من كتاب "لحظة يا زمن المساح.. نصوص وشهادات عنه"، قرأت عنوانه في مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة، فسألته هل ضم الكتاب كل اللحظات التي كتبتها بعمودك اليومي بصحيفة "الثورة"...؟
فقال إن الأديبين انتصار السري وفوزي الحرازي اللذين قاما بإعداد وجمع مجموعة من كتاباته وشهادات عنه من قبل مجموعة من الشخصيات الثقافية والإعلامية التي عاصرها، لم يحصلا على كثير من تلك اللحظات، والسبب أنها تقع بالصفحة الأخيرة من الصحيفة، فتعرضت للتلف والضياع.
قلت له أتمنى أن يسعفني الوقت وأعيد صياغة حديثك مع السري والحرازي بصيغة الغائب، أي بضمير (الهو) السردي، حتى أتمكن من عمل إضافات أحداث تاريخية كنت موجودًا داخلها، بخاصة منذ انتقلت طفلًا إلى مدينة عدن، مرورًا بالمحطات الوطنية والدراسية في عدن وتعز والقاهرة والمهنية صنعاء... لأن معدي الكتاب اقتصر عملهما على حواريهما معك وبعض كتاباتك، وشهادات عنك.
ابتهج وقال: صحيح، فهناك أشياء لم أوثقها، وبعد أن رأيت الكتاب وجدت أنه من الضروري إضافتها وذكر بعض منها، وقال إن لم يكن لديك مانع الليلة أنت ضيفي روح معي البيت.
خشيت أن أثقل عليه بالذهاب معه إلى البيت، بخاصة وأن ظروفه الصحية والنفسية والمالية تنعكس بقوة من على وجهه وهيئته المتعبة المكدودة، ولكن وعدته بتخصيص زيارة ثانية إليه في قريته لإضافة ما غفل عنه في الكتاب، لا سيما وأن فيها بعض الطرائف والنوادر.
***
تجاذبت معه أطراف الحديث حول بعض الأمور التي وجدتني مدفوعًا لمعرفتها بغية التأكد منها لتجاوز أي ملابسات وتساؤلات قد تبقى إجاباتها غامضة مجهولة أو مفقودة. ومن تلك الأمور ما يلي:
* ولد المساح عام 1948 كما ورد في الكتاب، وتخرج عام 1970 من جامعة القاهرة دار العلوم العليا قسم صحافة، وهذا يعني أنه درس الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة في 22 سنة دون توقف رغم ظروف وصعوبة التعليم في تلك الفترات قبل وبعد ثورة سبتمبر... عندما سألنه عن ذلك أجاب:
ـ تاريخ ولادتي تاريخ تقريبي، فأنا ولدت بسنة «المجارين» وهي سنة مشهورة حيث ألزم الإمام الرعايا بأن يعملوا مجارين داخل الحقول، ولا ينقلوا غلة الحصاد إلى القرى والمنازل، حتى يسهل لعماله تقدير زكاة الثمار أو الجباية على كل رعوي، وأطلق الناس على هذا العام عام المجارين، فمن ولد بهذا العام يقولون مثلًا فلان ولد بعام المجارين، فلان مات بعام المجارين، فلان تزوج بعام المجارين، وفلان هاجر إلى الحبشة أو مصوع بعام المجارين، وهكذا عرفت أني ولدت بعام المجارين، وهو عام 1948.
***
في كتابات لاحقة إن شاء الله سوف أتناول تحت عنوان زخات متناثرة من سيرة المساح، مستعينًا بحديثه للأديبين المبدعين انتصار السري، وفوزي الحرازي، مع بعض الإضافات التي زودني بها بحضور المبدع الأديب الشاعر جميل حاجب، والصديق الرائع محمد هائل السامعي الذي أعده بمشروع كاتب في المستقبل، وإليه يعزى الفضل الأول في ذلك اللقاء.
أربع ساعات مع المساح...!
2024-04-23