أولًا: الماء نعمة أسبغها الخالق على الخلق:
لولا "الماء" لانعدمت "الحياة" على وجه الكرة الأرضية.. فعامل "الماء" سواءً أكان عذبًا فراتًا (مياه الأنهار والبحيرات) أم ملحًا أجاجًا (مياه البحار والمحيطات) يشكل عصب الحياة على كوكبنا الجميل.. قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} (فاطر: 12). ولأهمية "الماء" فقد ورد ذكره في "القرآن الكريم" حوالي 63 مرة، تأكيدًا منه تعالى لهذه النعمة التي أنزلها بعد خلق السماوات والأرض وفتقهما ليحيي الأرض ومن عليها من المخلوقات كافة.. وأسبغها الله على الإنسان الذي أحسن تركيبه، وكرمه بالعقل على سائر الكائنات ليتدبر آياته ويشكره ويحمده على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30).
فالإنسان نفسه يتكون جسمه بحدود 70% أو ثلثي وزنه من الماء.. كما يحتاج منه يوميًا ما بين 2 و3 لترات ليبقى حيًا.
ويشكل الماء حوالي 73% من إجمالي مساحة الكرة الأرضية، تمثل المياه المالحة منه نسبة 97%، والمياه العذبة نحو 3%، منها 2.5% في صورة غير متاحة لاستخدام الإنسان، منها فقط 0.5% أو أقل لتلبية احتياجاته، جزء منها مياه صالحة للشرب، والجزء الآخر لمتطلبات التنمية التي تستهلك ثلثي الكمية، معظمها تذهب للقطاع الزراعي.
عمومًا، تبلغ كمية المياه التي تجري في الأنهار والبحيرات بحدود 200.000 مليار م3.
ويتفاوت مقدار المياه من مكان لآخر ومن فصل لآخر، وتعاني مناطق مشكلات مائية حادة، ويعتبر استغلال الإمكانات الإنتاجية المائية والحد الأساسي من الآمن المائي، تحديًا متواصلًا.
ومن المتوقع أن يصل عدد سكان العالم عام 2050م، ما يقارب 10 مليارات نسمة، أي سوف يزداد بمقدار ثلث تعداد السكان لعام 2015م، الذي بلغ بنحو 6.9 مليار نسمة، لذا فإنه مع استمرار الزيادة السكانية تزداد الحاجة المائية.. ويرى خبراء مياه، أنه من المحتمل أن يواجه نصف سكان العالم أوضاعًا مائية حادة ما بين عام 2025م و2030م، ويشمل ذلك 75% من البلدان العربية.
ومن هذا المنطلق، يجب على الإنسان المحافظة على هذه الموارد المائية المحدودة المتاحة حاليًا، والبحث عن مصادر بديلة لتوفير مياه عذبة صالحة للشرب واحتياجات التنمية المتزايدة.
ولا شك أن التعاون المشترك بين دول العالم في الشأن المائي، أمر في غاية الأهمية، ودونه النزاعات والحروب المدمرة في كثير من مناطق العالم.. لذلك، فإن العلاقات بمفهومها الواسع في مسألة المياه، تتمثل في العديد من أشكال التعاون التي تمثل في مجملها المخرج الرئيس والضامن لبقاء "كوكبنا الجميل"، جميلًا نابضًا بالحياة.
ثانيًا: الماء عامل رئيس لقيام الحضارات:
إن الحضارات عمومًا قديمها وحديثها، تقع على ضفاف الأنهار وفي المناطق التي تتوفر فيها الأمطار، ويمكننا على سبيل المثال ذكر بعض تلك الحضارات (الفرعونية، البابلية، السبئية، الهيلينية، الفينيقية، الرومانية، الصينية، السومرية، الهندية، الفارسية، الأنكا، المايا، العربية -الإسلامية... الخ، وصولًا إلى الحضارة الغربية الحديثة بدءًا من أوروبا حتى الولايات المتحدة الأمريكية).
فقد أرجع مؤرخون وجغرافيون أن تلك الحضارات وامتدادها عبر الزمن حتى الحضارة الحديثة، قد تلاقحت تباعًا في مسلسل لا تنقطع عراه من المعرفة والعلوم والفلسفة.. وساقوا أمثلة على ذلك التواصل الحضاري بين الشرق والغرب عبر طرق الحرير الممتدة من الصين شرقًا حتى جنوب غرب شبه الجزيرة العربية والشام غربًا وأوروبا شمالًا.. وكذا ركوب البحار بسفن شراعية عملاقة إلى شواطئ أخرى، ثم العودة أو البقاء حيث يطيب لهم المقام.
كما أكد علماء آثار ومؤرخون أن التواصل الحضاري كان قائمًا منذُ زمن بعيد، سبق الرحلات الاستكشافية للأوروبيين بعشرات القرون، والتي انطلقت بزخم وتسابق محموم بين الممالك الأوروبية بعد منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، إلى العالم الخارجي، بحثًا عن المواد الخام.. وأخذتهم روح المغامرة إلى مناطق كانوا يجهلونها: أستراليا، وأرخبيل إندونيسيا، وجزر الملايو، وجزر المحيط الهادئ والمحيط الهندي، والتي في الغالب لم تكن مجهولة لأمم حضارية أخرى سبقتهم بعشرات القرون.. ودللوا على ذلك ما وجدوه من آثار في أمريكا الوسطى والجنوبية، تشمل معابد، وأهرامات، وقلاعًا، وحصونًا، ومدرجات زراعية ونقوشًا... إلخ، يعود تاريخها إلى أكثر من 3500 سنة قبل الميلاد، خصوصًا في المكسيك، وبوليفيا، والأكوادور، والبيرو، وتشيلي، وكولومبيا... الخ.. حيث ازدهرت في ذلك الجزء من العالم حضارات ذات شأن، أبرزها حضارتا "المايا والأنكا" اللتان تشبهان بآثارهما إلى حد كبير الحضارات الشرقية في العالم القديم (الصينية، الهندية، الفرعونية، البابلية، السبئية، الفارسية، اليونانية، الرومانية، والفينيقية).
حقيقة، لم تكن الرحلات الاستكشافية الأوروبية في عصر النهضة، مقصورة على ذلك الجزء من العالم القديم، وإنما أخذت مدىً أوسع بفضل تطور صناعة السفن والأجهزة الملاحية الأكثر تقدمًا، والتي كان للعرب فضل كبير على تطورها، وبخاصة في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس.
وما أود تأكيده هنا هو أن عامل "الماء" سواء أكان عذبًا فراتًا (مياه الأنهار والبحيرات) أم ملحًا أجاجًا (مياه البحار والمحيطات)، يعتبر محور أساس للحياة ووسيلة تواصل بين الحضارات على مدى التاريخ الإنساني.
وذهب هيدرولوجيون بقولهم إن ما من حضارة إلا وكان الماء العامل الأهم تأثيرًا على بقائها، وطاب لهم القول إن الحضارات قد خلدت على مر التاريخ بخلود أنهارها، مثل النيل، دجلة، الفرات، السند، شانغ يانغ، هوانغ، المايكونغ، الكانغ، الأيبرو، الأندوس، الدانوب، الراين، الفولجا، الدنيبر، الدنيستر، التايمز، الأمازون، المسيسبي... إلخ.
ثالثًا: الأنهار مصدر تمجيد وقداسة وإلهام الشعراء:
حظيت الأنهار عبر تطوير التاريخ البشري بالتمجيد والقداسة وإلهام الشعراء، والكُتَّاب، والمؤرخين، والعلماء والجغرافيين.. فهي -أي الأنهار- سر وجودهم ورمز حضاراتهم، بل هي شريان الحب والنماء ونبع الخير، والخضرة، والازدهار، لما لها من فضل على استمرار حياة شعوبهم عبر الحقب والأزمان.
حقًا، لم يحظَ أي نهر في الدنيا بمثل ما حظي به "نهر النيل" من تمجيد وقداسة ومكانة، وبخاصة لدى أبناء مصر. ولبيان تلك الأهمية، فقد فاضت ترانيم القداس في معابدهم وأهراماتهم من قديم الأزمنة، وألهمت قرائح الشعراء والمداح على مدى الأزمنة في إبراز عظمة نهر النيل الخالد، وحبهم له إلى درجة العبادة باعتباره واهب الحياة.
كما أنه عصب الحياة للإنسان المصري والسوداني كدولتي مصب، وما يربطهما من وشائج وصلات قربى، وما يوحدهما أيضًا مع بقية دول حوض النيل على امتداد التاريخ من فيض الخير والحياة الأبدية.. وأكدوا أن "النيل" يوحد ولا يفرق شعوبهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأقتبس أبياتًا شعرية معبرة لأبرز شعراء النيل (النهر الخالد) على النحو الآتي:
- الشاعر حافظ إبراهيم (شاعر النيل):
ارتبط اسمه بالنيل، وأظهر عظمة مصر وأمجادها وخلودها في شعره، فمصر بالنسبة له "هبة النيل وهبة المصريين" على مر العصور، فجسد في أبياته التالية "مصر" وهي تتحدث عن نفسها بدلًا عنه:
وقف الخلق ينظرون جميعًا
كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناةُ الأهرام في سالف الدهر
كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العَلاء في مفرق الشرق
ودرّاته فرائد عقدي
- أمير الشعراء أحمد شوقي:
يؤكد وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه، بقوله:
النيلُ العذبُ هو الكوثرْ
والجنة شاطئه الأخضرْ
ريّان الصفحة والمنظرْ
ما أبهى الخلد وما أنضرْ
حبشـيُّ اللونِ كجيرته
من منبعه... وبحيرته
صبغ الشّطيْن بسمرته
لونًا كالمسك وكالعنبرْ
- الشاعر علي محمود طه (شاعر الجندول) يبعث برسالة من "ابن الشمال" إلى "ابن الجنوب"، قائلًا:
أخي إن وردت النيلَ قبل وُرُودي
فحي ذمامي عنده وعهودي
وقبل ثرىً فيه امتزْجنا أُبوةً
ونسلمه لابن لنا وحفيدِ
فكيف تُلاحيني والحَاك إنني
شهيدك في هذا وأنت شهيدي
حياتُكَ في الوادي حَياتي، فإنّما
وُجودُكَ في هِذي الحياةِ وجُودي
- إدريس محمد جماع (شاعر سوداني) يتغنى بما يغدقه نهر النيل على ضفتيه من منبعه إلى مصبه، قائلًا:
وادٍ من السّحْر أمْ ماءٌ وشطآنُ
أم جنةُ زفها للناسِ رضوانُ
كل الحياة ربيع مشرق نضر
في جانبيه، وكلُّ العمرِ رَيْعانُ
رابعًا: أهمية التعاون في مسألة المياه ومراعاة دول المصب:
قمين بالذكر، أن الماء الذي كان ومازال منشأ الحضارات وسر خلودها، أصبح من أكثر الموضوعات إثارة للنزاعات، خصوصًا بين الدول التي تشترك في نهر دولي واحد، مثل دول حوض النيل، وتشمل "مصر، جمهورية السودان، جمهورية جنوب السودان، إثيوبيا، الكونغو الديمقراطية، كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، وبروندي".
ويرى خبراء ومسؤولون من دول منابع النيل وبالأخص "إثيوبيا، كينيا، وأوغندا"، أن بلدانهم لا تستفيد من مياهها السطحية، وإنما يستفيد منها دولتا المصب (مصر وشمال السودان).
في المقابل، يرى خبراء وهيدرولوجيون مصريون، أن دول منابع النيل تبالغ كثيرًا في تقديرها لحجم مشاكلها المائية، حيث تغزر فيها الأمطار، وفي المقابل تندر الأمطار في مصر، وتعتمد كليًا على مياه نهر النيل. كما أن هناك قوى خارجية تحاول أن تدق إسفينًا بين مصر وبقية دول الحوض، ويؤكدون أن "مصر" ستتعاون من جانبها مع "دول الحوض" لكي يستفيد الجميع من كميات المياه المهدرة نتيجة لتبخرها في المستنقعات، والخوانق، والجنادل، والأخاديد الجبلية، والأحراش الاستوائية التي قدروها بأكثر من نصف الكمية الحالية من المياه التي تستقبلها "أسوان" في مصر.
ويذهب سياسيون وعسكريون مصريون إلى القول: لن تسمح مصر لأية دولة أخرى من دول الحوض، بأن تملي عليها أي شروط في المياه.. وإن مصر إذا كانت لم تدافع عن أمنها القومي المائي، فلأي شيء تدافع؟
ويشير مراقبون إلى أن مبدأ استقرار العلاقات المصرية -الإثيوبية يجب أن يكون قائمًا من منظور حرص مصر على استمرار تدفق مياه النيل إليها، دون عوائق أو عقبات، وأكدوا أن مصر يجب أن تتعاون مع دول المنابع، وبصفة خاصة مع "إثيوبيا" التي تمدها بحدود 85٪ من المياه.
وكان يؤمل أن تتوصل إثيوبيا كدولة منبع رئيسة مع دولتي المصب مصر والسودان، إلى حل للخلافات وفقًا لاتفاق المبادئ الموقع بين رؤساء الدول الثلاث في 23 مارس 2015م، في الخرطوم، والمتضمن التعاون والتنسيق في جميع المجالات التنموية والفنية.
وبما أن بناء "سد النهضة" قد أصبح حاليًا شبه مكتمل بنسبة 90٪، حسب إفادة الجانب الإثيوبي في آخر اجتماع للدول الثلاث في أديس أبابا، في 22 ديسمبر 2023م، لكنه لم يتم التوصل إلى حل في هذا الاجتماع، بسبب استمرار تصرف إثيوبيا الأحادي بتملئة السد لرابع سنة، وبحدود 31 مليار متر مكعب أو يزيد، دون التوصل لاتفاق نهائي حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة مع دولتي المصب.
وتشكو مصر نقص المياه وفقدان 24 مليار مكعب سنويًا، وتحذر من الإضرار بالأمن المائي. كما تحمل مصر الجانب الإثيوبي مسؤولية توقف مفاوضات سد النهضة.
وفي اجتماع مشترك لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، في "الرياض"، في 3 مارس 2024م، تمخض الاجتماع عن دعم خليجي لحقوق مصر والسودان المائية، واعتباره أمنًا قوميًا عربيًا.
ويؤكد السودان من جانبه على أهمية التوصل لاتفاق نهائي حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.
ومن ناحية أخرى، صرح رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، بأن نجاح مفاوضات سد النهضة يتطلب تنازلات من الأطراف الثلاثة، وأن ملء سد النهضة لن يكون محل نقاش بعد الآن، ويعلن دخول مشروع سد النهضة مرحلته النهائية.
كما تعلن مصر من جانبها بالمثل إنهاء مسار التفاوض مع إثيوبيا حول سد النهضة، وتؤكد أيضًا حقها في الدفاع عن أمنها المائي.
ويرى مراقبون أن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحًا تجاه تعزيز التعاون والتفاهم بين إثيوبيا ودولتي المصب، إلا أن كلمة "التعاون" تبقى كلمة مجردة لا معنى لها ما لم يسبقها بناء الثقة وتحسين العلاقات في ما بين الجانبين.
جوهر القول، إنه يحدونا الأمل باتفاق يجمع شمل الأشقاء في الدول الثلاث، في قضية مهمة كالمياه، لأن ما يجمعهم من أواصر تاريخية مشتركة أعمق مما يفرقهم.
الماء عصب الحياة وقيام الحضارات
2024-03-26