في مثل هذا اليوم من عام 2011م، وتأسيًا بثورات تونس ومصر وليبيا.. انطلقت من تعز العِز ثم من بقية المحافظات والمدن والمناطق اليمنية كلها.. ثورة شبابية طاهرة نقية.. تهدف إلى كسر الجمود الذي أصاب الدولة حينها، وتتطلع إلى المزيد من البناء والتعمير، ووضع حد للمحسوبية ولطغيان الحكم القبلي والأُسري والمناطقي، وبناء دولة مدنية ديمقراطية بحق وحقيقة تعطي الفُرص للجميع بحسب مؤهلاتهم العلمية والعملية، والقُدرة على العَطَاء والانتماء الحق للوطن كل الوطن.. كانت هذه الجوانب من أهم الأهداف التي سعى إلى تحقيقها شباب تلك "الثورة"! وبحسب اللافتات والآراء التي رُفعت في ساحات "الثورة" التي تجمع بها الشباب باسم ثورتهم! ومعظمهم وربما كلهم حسب الظاهِر، مستقلون حِزبيًا! بخاصة وأن بعض أهم الدوافع التي وراء ثورتهم إضافة إلى ما ذكرته آنفًا، هي البَطَالة بينهم كشباب!
وسرعان ما دخلت الأحزاب تلك الثورة.. وبكل ما تُمثل من توجهات وأهداف وتطلعات خاصة بها، بما فيها -وهو الأهم- مواقفها الشخصية من النظام! وكان على رأس تلك الأحزاب (التجمع اليمني للإصلاح!)، ليصبح هو الآمر والناهي والمُسَيِّر (بكسر الياء المشدَّدة) لتلك الثورة! وساعد على ذلك حجم ونشاط وقدرات شباب تلك الأحزاب بوجه عام، وحزب الإصلاح بوجه خاص، إضافة إلى قُدُرات بعض أهم قادتها المادية على تقديم كل احتياجات "الثورة" و"الثوار" من كل الجوانب، بما في ذلك تقديم الوَجَبَات الغذائية اليومية لكل راغب من ثُوار ساحة التغيير قُرب جامعة صنعاء بالذات.
ورغم معرفة بعض شباب الثورة بأهداف الأحزاب، وما بينها وبين النظام من خصومات آنذاك! الخ.. فقد ظلوا بثورتهم بكل حيوية ونشاط! وازدادوا ثقة وهم يُشَاهدون الأحزاب تتبنى نفس أهدافهم وتطلعاتهم.. ولو حسب الظاهِر المُعلن! ومع مرور الوقت و ط"الثورة" تزداد نشاطًا وثباتًا وألقًا.. وجاء انضمام الرجل الثاني في النظام آنذاك والداعم والمحافِظ له طيلة أكثر من ثلاثين عامًا.. أعني الفريق الركن علي محسن صالح -رعاه الله- جاء انضمامه للثورة.. ليعطيها زخمًا وثباتًا ونشاطًا أكثر وأكثر.. ويقينًا في نجاح الثورة وتحقيق أهدافها وتطلعاتها! إضافة إلى المزيد من اليقين في صحة التوجهات الشبابية ضد النظام آنذاك.. والذي لو كان نظامًا جيدًا لَمَا تركه مَن ظَل في كنفه ويرعاه وله الفضل في إنقاذه من انقلاب الناصريين عام 1978م! هكذا كان شباب الثورة يُرددون!
ولأني مُستقِل حزبيًا، وظللتُ مقتنعًا أن أظل كذلك رغم ذهاب الفُرص بسبب الاستقلالية الحزبية.. كنتُ في بداية انطلاق "الثورة" مترددًا في الانتماء إليها، بخاصة بعد احتوائها -حزبيًا!- رغم أنني كنتُ أذهب إلى ساحة الحرية بعاصمتنا الحبيبة (المحتلة) اليوم! وحتى جَاءَت جُمُعة "الكرامة" حينما كنتُ في الركعة الأُولى أو الثانية من صلاة الجمعة بِنفس ساحة التغيير، حيث ظللتُ أسمع الرصاص يقنص بعض الشباب! لتأتي رصاصة على رأس شاب كان بجواري في الصلاة تمامًا.. ولأفيق على سقوطه مضرجًا بدمائه، ولتصل بعض دمائه -رحمه الله- إلى ملابسي شخصيًا! مُعتبرًا أن الله كتب لي عُمرًا جديدًا يومها.. ولكي أشهد انقلاب 21 سبتمبر 2014م المشؤوم.. وصولًا إلى دخولي مع اثنين من أبنائي سجن الأمن الحوثي (القومي) سابقًا.. وبسبب بعض مقالاتي وتوجهاتي السياسية، التي كنتُ أكتبها أيام النظام السابق، وبعضها بِنفس الصحيفة التي تصدر عن التوجيه المعنوي -أعني صحيفة 26 سبتمبر الأسبوعية- ودون أن أتعرض لسجن ولا لغيره، وهي شهادة قلتها وظللتُ ومازلتُ أقولها وأحتسب بها عند الله.. وإن كان يظهر بعض العَتَب أحيانًا.
حينما حدث ما حدث بجمعة "الكرامة"، وبالصورة الآنفة الذكر، عدتُ إلى المنزل، وكتبتُ مقالة بعنوان "كان لا بُدَّ أن ينتهي"، وشاركتُ بالثورة وبنية وهمة عالية، ورغبة جامحة.. ورغم تعرض بعض كبار موظفي الدولة ممن انضموا للثورة، إلى مضايقات ومصادرة السيارات التي بعهدتهم وغيرها، فإن البعض الآخر -وأنا أحدهم- لم نتعرض لشيء من ذلك، بل إنني كنتُ أذهب إلى مقر عملي الوظيفي بمجلس الوزراء، دون التعرض لأية مضايقات.. وإلى درجة أنني قابلت حينها أمين عام مجلس الوزراء عبدالحافظ السِّمة، وعرضتُ عليه إعادة السيارة التي بعهدتي.. لكنه اكتفى بالابتسامة، ثم القول بأن الثورة لم تَعُد ثورة شباب يا أُستاذ؟ هكذا قال ذلك بالحرف الواحد!
إن ما أود قوله بهذه العجالة، أن ثورة الشباب كانت حاجة ملحة رغم توجهاتها وأهدافها المُعلنة، وما طرأت من أحداث وتجاوزات خلالها.. ومن ذلك أحداث جمعة رجب بمسجد دار الرئاسة، حتى ولو لم يكن للثورة ورجالها دور فيها.. رغم قيام خطيب الساحة بالتبشير بها عند حدوثها، فإن ثورة الشباب كانت بمثابة (الإيحاء) لها! رغم عدم تحملها مسؤولية ما حدث! إضافة إلى التوجه الشبابي إلى مجلس الوزراء، ومحاولة اقتحامه.. وغير ذلك من التجاوزات، رغم أنها ثورة (سلمية)، وربما لولا انضمام علي محسن صالح للثورة، لحدثت تجاوزات أشد، ولخرجت الثورة على سلميتها!
ثم اكتشف أمثالي فجأةً أن أهداف أحزاب اللقاء المشترك كانت بالدرجة الأولى هي المُشَاركة في السلطة، وحصول كوادرها وشبابها على مناصب قيادية.. الخ.. وهذا هو الذي حدث فعليًا في ما بعد.. حينما قبلت الفُتَات من المناصب، وإلى درجة التضحية بكل من شارك بالثورة دون أن يكون حِزبيًا! وأعطت الحصانة دون دراسة ولا تَرَوٍّ.. رغم أن بعض قيادات الأحزاب المُشاركة والفاعِلة جدًا في الثورة، هي أيضًا شاركت النظام السابق في بعض تجاوزاته وَفَسَاده!
ثم مساهمة أحزاب "الثورة" في إظهار وتلميع "أنصار أنفسهم"، والااعتراف بمظلوميتهم في ما بعد، وإلى قبول كل من ركب الموجه ودخل "الثورة" من الطارئين عليها ممن ظلوا يحقدون على ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة.. وغيرهم من النطيحة والمتردية وما أكل السبع، والذي يجمع الجميع بجانب أهداف وتوجهات الأحزاب الخاصة، هو خصومة النظام السابق بالذات!
هذه التوجهات والأهداف الحقيقية لأحزاب "الثورة"، بما في ذلك القُبُول بالفُتات من المَناصِب والفجور في الخصومة، وغير ذلك مما ذُكر.. أفقد الثورة أهداف وتطلعات شبابها التي من أجلها قاموا بها! وجعلت من تلك التنازلات بمجملها، بما فيها الحصانة، "نصف ثورة". وتلك لعمري قمة الخطورة في كل زمان ومكان! ودون نكران الجوانب الإيجابية الأُخرى للثورة، وأهمها إسناد رئاسة الوزراء للأُستاذ محمد سالم باسندوة -رعاه الله- وما حقق من نجاحات عامة ومعالجات للبطالة وَغيرها.. إلا أن تلك الأخطاء بمجملها أوصلت الجميع دون استثناء إلى فقدان الوطن كل الوطن، وارتمائه بأحضان إيران الفارسية التي صرح وزير دفاعها مساء يوم انقلاب 21 سبتمبر 2014م المشؤوم، أن العاصمة العربية الرابعة سقطت تحت هيمنة إيران. يعني صنعاء التي جاءت بعد سقوط بيروت وبغداد ودمشق.
فلكم كان صادقًا جدًا بقوله.. رغم أنه كذوب، ولولا "عاصفة الحزم" لكان اليمن كل اليمن تحت هيمنة إيران الفارسية! ولأن الفقر والبطالة والمجاعة والحروب التي صاحبت الاانقلاب المَشؤوم، باتت هي المهيمن رغم بعض التعافي ببعض المُحافظات والمُدن المُحَررة، فلا غرابة أن يَحن البعض إلى ما قبل ثورة الشباب! ولا غرابة أيضًا من إثراء البعض من الحروب القائمة، بمن فيهم بعض المحسوبين على "الشرعية" من قيادات عسكرية وأمنية ومَدنية!
ولذا ستظل ثورة الشباب بين راضٍ عنها وساخط منها.. رغم أن المرحلة تقتضي توحد الجميع ممن تضرروا من انقلاب 21 سبتمبر 2014م المشؤوم، وهم كُثر.. تحث قيادة "الشرعية" ممثلة برئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي.. بما في ذلك توحيد السلاح والقلم والتوجهات والأهداف التي من شأنها تحرير عاصمتنا المحتلة، وإعادة الدولة.. وأهمية وضوح بعض دول التحالف من بعض توجهاتها وأهدافها المُعلنة! الخ.. وهذا بدلًا من الاستمرار في نقد ثورة "الشباب"، والنيل من الخصوم بطريقة غير مُستساغة أحيانًا! مع أن ثورة الشباب بحاجة إلى دراسة وتقييم شامل بعد تحرير الوطن، حتى لا تتكر الأخطاء والتجاوزات التي -رغم كل ما سبق إيجازه- ستظل بين راضٍ عنها وساخط منها حتى يأذن الله بالفرج، مع أن هذه "الدردشة" عن ثورة الشباب ليست الأُولى، فقد كتبتُ عنها غير مرة، وبتفاصيل أكثر.. وهذا ما رأيتُ إيجازه بهذه الأسطر التي لا أخالُ أنني أتيتُ فيها بجديد!
تعز - 11 فبراير 2024م
ثورة الشباب.. بين راضٍ عنها وساخط!
2024-02-11