مات خالي
نعم قالوا: مات خالي!
بلى، مات الياسين
والأنكى، مات خارج بيته، وأسرته المشتتة في أكثر من بلاد، مات بعيدًا عن صنعائه، ونوافذها، وبيبانها، وياجورها، وشواقيصها، و"يا صباح الرضا" برائحة القهوة، والمطبق، ونفث أنفاس سيجارة عند مقاشم الشذاب والريحان لـ"صنعاء حوت كل فن"، وشجى النشيد الوطني، "رددي أيتها الدنيا نشيدي"، من مدارس الشيماء والطبري.
مات بسكتة وقيص سيف الشانني ورصاصه، تكثفت طعناته الفاتكة مذ غادر كل شيء الموطئ والكنان، والولد، والبيت -الوطن.
(2)
خالك مات
ههه
مات ياسين
هههه، قولوا خبر ثاني!
عادني ما استوعبت رحيل أبي وخالي محمد غالب، في عام واحد، ليلحق الياسين بهم.
أصر، وأنا أسمع الاتصال الكتيم في ذلك السابع الديسمبري من 2022، ووحشة كامبات اللجوء التي تكويني كل ساعة بميسم التلاشي، وسؤال الوجود: قولوا خبر ثاني ياج ماعة، ربما أكوبس كعادة الكوابيس الجاثمة على روحي كل يوم.
يأتيني الصوت، واثقًا، ياسين مات، فلا تسخري، ولا تفجعي، ولا خبر ثاني، الموت حقيقة، مثله مثل آلاف اليمنيين الذين التحفوا الفجيعة، والتحقوا بأوطان "خلف خلفوف، وجبل ملفوف"، و"بلاد الغدرة" التغريبة اليمنية التي تجددت وبعثت من جديد، في ظل الحرب على اليمني، فتسردان وجع الإنسان اليمني عبر وجوده الممهور بالفقر والجوع والخوف من العسكر والعكفي، وتناسل الأئمة الغلاظ وتتار كل العصور، حتى الثورات البائسة حقنت بالقطران، وخرافة "خير أمة"، و"رب غفور"، ويموت اليمني خارج الحنين والكنكنة من بيت وأسرة، وأغنية، وما يقال عنه الوطن الكبير: "اليمن بلادنا وعزها عز لنا"! الأخيرة أين موقعها عند ياسين، وكل ياسينات اليمن!
(3)
نعم، مات خالي كما يموت اليمنيون المنفيون في عوالم أقرب إلى الجليد وزؤوبة من الوحدة واليتم، وهثيم بل سيل من الذكريات التي لا تشيخ، وتتكاثر كلما ابتعد المرء شبر عن بيته -موطنه.
من أعمال الفنان ياسين غالب (من صفحته على فيسبوك)
مات الياسين خارج لوحاته، ووجوه الأنس الأليفة التي يريقها بروح ألوانه، وخطوط من واقع وتراجيديا، وتجاعيد " كان ياما كان"، والنظرات، وإطارات لوحات توقف الزمن، لكنها تخرج من لون وضوء، محلقة في فضاءات ممتدة.
طيب، وماذا عن أشيائه "القلافد" التي كان يسميها، ويلتقطها من الطرقات والجبال، وأينما وقعت عينه عليها، ونبست بها روحه، بأن هذا الغصن، أو الزجاجة، أو أغطية البيبسي، أو العيدان، أو الأوراق والعلب، ووو، سأعيد إحياءهم، في لوحات ناطقة وآسرة. لوحات من الألوان، والوجوه، والملبس والزينة، من مشقر، ولازم وأقراط، ووو، لقد عنونها بـ"مواد مختلقة"، وكانت بالفعل لوحات خلق وإبداع.
(4)
مسك الحوباني، وفضيلة الحامد
وأنت تشاهد اللوحات التشكيلية المتعددة لوجوه النساء، وإن اختلفن في النظرة والحركة واللون، والظلال، والإيماءات والإكسسورات، ووو، لكن ترى الجامع فيها: أمه مسك الحوباني؛ المرأة التي نعرفها: أنيقة، تتفنن في تجميل وجهها بالكريم "الواسلين"، و"النيفيا"، والكحل الذي لا يفارق عينيها، والحناء، و"النبعة"/الصُّفة السوداء والمحناة بعد ذلك، والمشقر الملازم لها في كل وقت، أعتقد حتى إنها تنام وهو يزين خدها، والملبس المبهج بالألوان الصارخة، والإكسسوارات، من أقراط ولازم، وخواتم، وأساور، الأناقة تاجها اليومي حتى في عز انشغالها، بالأرض، والبقر، وهموم الحياة اليومية في القرية، أتذكرها في القرية والمدينة من تعز إلى صنعاء جسدًا وروحًا، وفي لوحات التشكيل في الغياب الطويل.
ياسين في لوحاته المختلفة يستعيد وجهها الأنيق، وحياة الأم في وجودها ورحيلها، نعم إنها "المسك" بوجهها الأليف، حتى وإن اتخذت الوجوه في لوحاته أشكالًا وأبعادًا مختلفة.
وبالمثل، كانت اللوحة -الوجه لرفيقة دربه فضيلة الحامد، وهي -أيضًا- فنانة تجسد لوحاتها بألوان بالخيط والإبرة، وتشترك بالشغف مع ياسينها، مباني صنعاء القديمة وحضرموت، فمعظم النساء اللواتي جسدهن في لوحاته، لا يخرجن عن مسك الأم، وفضيلة الزوجة -الصديقة، حتى وإن اتخذت روح نساء اليمن، وبناته، يكتب ياسين في صفحته، التي أخذت منها مقاطع لحالة الياسين في اليمن، وخارجها، يقول عن فضيلة:
"قالت: أراك منهك القوى، هلا عرضت نفسك على طبيب قلب كونك قد تعديت السنين؟
قلت لها: لم يبق سليمًا فيّ إلا قلبي لأنك فيه".
(5)
البيت، والأماكن، العزلة المضاعفة
يقول ياسين:
سآوي إلى جبل يعصمني من الناس
تترسب أرواحنا في الأمكنة
فتغدو ذكريات
الياسين، الفنان والمعماري، المتخرج من الاتحاد السوفيتي في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، جسد تعليمه تطبيقًا، مضيفًا ملكته الفنية والثقافية خلال عمله في "الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية"، لصنعاء، وزبيد، وصعدة، وو.
ياسين غالب وأمه مسك طالب في الثمانينات (من صفحته على فيسبوك)
وبنفس الوجد اشتغل على حلمه بعمار بيت يكننه وأسرته، ويحميهم من متغيرات ومغيرات الزمن، ظل لسنوات يبنيه بروحه وخياله، وأحلامه حجرًا على حجر، ليكون وطنًا داخل وطن أكبر، وكان له ذلك، بل ظل حتى رحيله من اليمن، يعمر وتدًا على وتد، يعجن التراب والنّورة، وفي حوشه الصغير، يزرع شجرة تين في هذا الجانب، وشجرة شاي في الجانب الآخر، ويشذب الزرعات وما علق بها من هوام، ويصنع من أوراق الربيع والخريف، عالم الجمال. ظل يوفي ما نقص، بكل قوته، حتى توارى جسدًا في دمياط مصر، كان في عجلة دائمة، يسارع ليلحق بالزمن قبل أفول ساعاته، ليكمل الفراغات والتئام النواقص في اللوحات، والأسرة والبيت الحوش، والنافذة والجدار، ووو.. أشياء لا تنتهي، تظل معلقة ببكره وبعده كعنوان إنساني، في هذا الخضم نسي أن يرمم روحه الهائمة التعبة والمهشمة.
البيت الياسيني لأسرة شغوفة بالفنون (فضيلة، سلمى، لميس، ليلى، محمد، وين الحفيد) تتزيا جدرانه باللوحات، وجه مسك هنا، ومفتاح هناك، وقبيلي يعتمر بندقيته، باب قديم، وشباك، ومغلقة باب عتيق، وباقة من مشقر ووردة، وحروف، وقمريات، وأوراق جافة، ونقوش ونحت من خشب وجص وحجارة وطين، والرسم على الزجاج المعشق، ووو، هكذا تنطق جدران بيته، والمعارض المشارك بها محليًا وخارجيًا.
في حوش بيته، أتذكر شجرة الشاي الأخضر التي زرعها، وأسأل، أمازالت شجرة الشاي تخضر تعطي، أم ماتت مثلما ماتت أصص الريحان وياسينها الذي أماته المنفى ألف ألف مرة؟
بالمؤقت حقق ياسين حلمه، ببيت الكون الأوسع كما قال غاستون باشلار، "البيت هو ركننا في العالم... كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى". لقد عمر البيت الدافئ بالمعنى، دفء أحجاره البنية، كما في لوحاته، وبأنه سيحيا وأسرته فيه، ولن يغادره إلى إلا قبره، بيته الذي كان ينام بين أحضانه كأنه ينام في الجنة، أو كنكنة جنين في بطن أمه.
هل أقول لكم، إن ياسين وبالمثل إخوته عمروا دورًا، وغادروها، بعد أن استفحلت المليشيات الجهنمية العابثة بكل شيء، ديدنها "هل من مزيد؟"، ومزيدها الاجتثاث لآخر نفس. لقد تركوا البيت والمكتبة وشجرة الريحان والأزاب والشذاب، والتين الكبيرة، وتعنونوا بالشتات، والموت خارج البيت والأسرة.
يقول، ياسين:
بات حذاء ضاقت به قدماي
هناك في بيوتنا المعلقة دخان
(6)
صنعاء:
بالله عليك أيها الياسين، كيف سأرى صنعاء وإحدى عيونها غادرت. رأيتك تكتب ذات يوم، عن صنعائك التي سكنتها وسكنتك، تقول: "وقضيت جل سنوات عمري، فكنت فيها يافعًا غضًا وزوجًا وأبًا وكهلًا ومن الصابرين، صنعاء مليكة الروح وسكينة رغم كل شيء".
ولكن أبت المليشيات، إلا أن تصرخ وبوحشية: برع، ومليون برع!
الفنان الراحل ياسين غالب مع الأديب عبدالله القاضي (أروى عثمان)
حتى سورة ياسين، لم تجد لتحد من عنف وشرور المستطير والمسيطر معًا: تحكللت، وأصيبت بالسكتة، فسكت في صقيع ديسمبري. وبالمثل خانتنا تعويذة الأمهات والجدات إن عجزنا ومرضنا: "ياسين وألف ياسين"، لم تعد علاجًا ورُقْية، فرحلت، ومت بعيدًا، أو كما كتبت ذات كرب:
"يا رب قلت: إن أرضك واسعة (ألم تكن أرض الله واسعة؟)، فما بالهم ضيقوها بالمنع والإتاوات والفيز والإقامات؟!
ويسترسل في موضع آخر، ليعزي نفسه، ونحن معه: "متى واراعية شيمطر وما مطرة تقع من غير رعود؟"، ظللت وظللنا معك نمني أنفسنا بانتظار المطرة، فكان في انتظارنا الجفاف والظمأ والرعود العاقرة، إنها المليشيات يا ياسين: لا صوت سوى صوت الرياح والبنادق ومليشيات تعتمر التوحش سلاحًا وصرخة، وقاتًا وبردقانًا، ومخدرات، وسحلناهم:بـ "الله أكبر"، و"حيا بشربة الدم".
كنت محقًا بالرحيل من صنعائك للبحث عن حياة جديدة، بعد أن ضاقت الحياة وتوضروا في صنعاء واليمن كلها، فهل ثمة حياة وجدران ولبن صنعائك تصرخ بزوامل الفناء "حيا بشربة الدم"؟! أو "في ديرتي شلة قوية حافية مبندقة"، ومثل صنعائك المدماة، حاقت المهلكة بصعدة التي أحببتها وأحببت معمارها، وكذلك تعز، وعدن، كل البلاد تصفدت على موت معلن، وغير معلن.
(7)
أشجان وافتقادات المنفى:
الصديق سعيد:
لا تعرف ياسين إلا بصديق عمره، وصديق الأسرة سعيد الخليدي، فأتصور، كيف سيكون حال سعيد بفقدان توأم روحه ياسين، مازلت أتذكرهما، عندما كانا يأتيان إلى بيتنا بحوض الأشراف بتعز، ويصطبحان على خبز الطاوة من يد أمي رحمة الله عليها، في مطبخ الحطب "الصُّعد"، ويتلذذان ونحن معهما على الخبز والسمن البلدي، والشاي الأحمر أو الشاي الملبن..
يقول ياسين، في إحدى كتاباته عن سعيد:
"سأترك جسمي وإلى السماء أصعد، وربما أبعد
سأترك سعيد صديقي
فقد كنت بصحبته أسعد"
العائلة وين:
ياسين غالب وزوجته فضيلة في مصر (من صفحة ابنته على انستجرام)
ويتواصل شعور الافتقاد، يسم تلابيبه، يسم وجوه الأسرة والحفيد "ين"، والأوراق والجدار، والسلالم والسطح، وبيوت الجيران، واللوحة، تنسكب ذكرى من بعيد تستنطق خربشات "ين" الطفولية، على جدران البيت، ذكرى الافتقاد ملزمة كالظل والأنفاس.
يكتب ياسين عن ين -الحفيد:
"رسم على وجه الجدار خربشاته الطفولية
مختزلًا ومتجاوزًا ثرثرات الكبار
مكثفًا معاني لا يدركها إلا أهل العرفان... أفتقد طفولة أبنائي، والسبط والحفيد"
ويسترسل في كتابة أخرى، محتزمًا بالذكرى والحنين، التي تقفل على وجع، إذ يقول: "الشوك أعياني"، مستبدلًا الشوق بالشوك، بنكهة أغنية الفنان الخالد محمد حمود الحارثي "الشوق أعياني".
وفي موضع ألم، يقول: "ظلام حتى مطلع الفجر"، و"الصبح تباشير يوم جديد"، وتنقضه بـ"تعرف يومك من صبحته".
(8)
اللوحة مرة أخرى:
نعم، قالوا مات!
من أعمال الفنان ياسين غالب (من صفحته على فيسبوك)
كيف نقرأ لوحات الوجوه -البورتريهات خصوصًا وجوه النساء، ملتحفات بالمقرمة والمشقر، وعيون تسبح في اتجاهات مختلفة، معظمها تسرد حكايات.. أتذكر كنت أهدتني لوحات لبعض تلك الوجوه، ومثلك تركتها والمكتبة والمتحف ومجاول الريحان، والشرفة، ورحلت مثلما ارتحلت أنت، وتركت كل شيء بأمنية مسكونة في الوعي واللاوعي، سنرجع بعد يومين، فتعنوننا، بأضغاث أحلام، وكتب على أرواحنا، بـ"لا شيء"، فأي قهر وقهر لننجو من محن الحنين، وتدفق الذكريات؟
(9)
قبل المختم
وبالمثل، كانت الأحلام كبيرة، كبر البحر، وبعد السماء، كما تغني فيروز، فكنا نسمعه دائمًا، وبلغة الواثق، مرددًا لحبيبته الأبدية صنعاء القديمة: سنعمر صنعاء، سنحافظ، سنرمم، سنعيد، سنحيي، وكلما خربشوا ودمروا وانتهكوا صنعاءه، يتوجع أسى، ويتأوه بمليون فجيعة.. لقد حمل فجيعته معه، وغادر، وترك كل شيء.
لا نكذب على أنفسنا، فلم تعد صنعاء تتسع له، ولا للوحاته، ضاقت نوافذها أكثر وأعمق وأظلم، وبالمثل مآذنها، ومقاشمها التي كان يرويها من حبه كل صباح ومساء. ومثلما افتقد أمه مسك أكثر من مرة، مرة برحيلها بالزهايمر، وبموتها مرة ثانية، غادرت صنعاء أيضًا، وغدا الفردوس المفقود: منفى.
مختتم:
قالت أمة الرزاق جحاف، التي غادرت قبله بأشهر، وقد كونوا رفقة جميلة يلمهما حب وصلاة لصنعاء القديمة، إذ تقول: "بعيونك تبدو الأيام جامدة والعمر يجري بلا كلل، ولا ملل".
رحل الياسين، وياسين وعليه ألف ياسين، ربما ستجدي التعويذة نفعًا في السماء، وستخفف فقداننا لك، بالصور واللوحات والتحف.
ياسيننا الجميل، في أية خانة -موضع يمكن أن نعرفه، أياسين الفنان، الأب والصديق، ياسين البار بعائلته، يكبر معهم طفولته، ولا تخلو الأيام وأماسيها من الاشتراك -معًا- في لوحة ترسم معالم المستقبل.
فـ"متى واراعية شيمطر؟!".