على كراسي إحدى الكافتيريات عند فرزة "متنة"، حيث تتجمع الباصات لنقل المسافرين إلى الحديدة، وجدت بعض أعضاء فريق "الهاش"، يتناولون وجبة الإفطار، ألقيت عليهم السلام، وتحدثت معهم قليلًا، ثم جلست على الكرسي في الجانب الآخر لانتظار البقية، والاستمتاع بمراقبة تحركات الناس في تلك المنطقة.
منزل في قرية المداور القديمة ( النداء)
استغرق وقت الانتظار ما يقارب النصف ساعة حتى تجمع البقية، وبدأنا الاستعداد للتحرك، بدأت المغامرة الجديدة التي حملت شعار "كلنا غزة"، من منطقة "الصباحة"، كانت المنطقة أكثر برودة من وسط صنعاء، مشينا على طول طريق إسفلتي، ومن ثم توجهنا صوب وادي "ريعان"، على الجانب الأيمن وجدنا بعض الأرضي الزراعية التي لاتزال خضراء تسلب الأنظار.
هذه المرة لم يكن الطريق يحتاج إلى تسلق، بل كان طريقًا شبه مستوٍ، تارة ممتعًا، وتارة أخرى غير ممتع، ويعتمد ذلك على خضرة المكان على جانبي الطريق أو جفافه، خصوصًا مع دخول فصل الخريف.
في طريقنا، التقينا ببعض سكان منطقة "الصباحة"، منهم من كان على متن سيارته الخاصة، وآخرون يمشون في الشارع، ولكن كان السؤال الموحد لهم: إلى أين تتوجهون؟ فنجيبهم نحن في رحلة! أحد السائلين عندما رأى أحدنا يحمل علم فلسطين، والبعض يرتدي الكوفية الفلسطينية، كان ظريفًا لدرجة قال لنا: "فلسطين ليست من هنا"، ابتسمنا كالعادة، واستمررنا في المشي، ثم سلكنا الطريق المؤدي إلى قرية "المداور" القديمة.
قرية المداور القديمة
فريق "الهاش" عند احد مداخل قرية" المداور القديمة" (النداء)
تعد قرية "المداور" القديمة إحدى قرى عزلة "ربع همدان"، الواقعة جنوب غرب مدينة صنعاء.
عندما وطأت قدماي هذا المكان، شعرت أني انتقلت عبر آلة الزمن إلى حقبة تاريخية قديمة، رائحة الريف تنبعث من بين أحجار المنازل العتيقة، ومن بين روث الأبقار المكدس الذي يستخدمه أبناء القرية كسماد للأراضي الزراعية.
كان المكان يحتوي على عدد من المباني القديمة المبنية من الحجارة أو الطين، البعض منها لاتزال مسكونة، والبعض الآخر هجرها
أحد المنازل الذي تهاوت جدرانه في قرية المداور(النداء)
أهلها وتركوها وحيدة دون اهتمام، طبعًا عدد من تلك المباني صمدت وتحملت ألم فراق ساكنيها الذين انتقلوا للعيش في المدينة بعد أن تحسنت ظرفهم المادية، ومنها من لم تتحمل، فتهاوت جدرانها، وأصبحت تحت عبارة "كانت هنا دار".
في حارات القرية، وبينما أنت تشاهد المنازل، سترى عظمة أجدادنا الذين بنوا تلك البيوت العتيقة، بتلك الحجارة الكبيرة التي لن يقدر أحد من هذا الجيل على حملها اليوم، وتلك الأبواب القوية المصنوعة من جذوع الأشجار. وبينما نحن نتجول في الحارات، لفتت انتباهنا الكلاب التي تحرس المنازل، كانت تنبح وتكشر عن أنيابها لدرجة شعرت أنها ستقفز فوقنا كذئاب حينما تنقض على فريستها، ولكن من حسن حظنا أنها كانت مربوطة بسلاسل! كما وجدنا حمارًا ينهق أثناء مرورنا بالقرب منه (ربما كان يستقبلنا بطريقته!).
بالطبع، روعة المكان لم تكن فقط في ما ذكرت، بل كانت أيضًا في النساء والأطفال الذين يتأقلمون مع الغرباء بسرعة، وهذه هي الطبيعة الجميلة التي يتمتع بها أبناء القرى، فلا يوجد لديهم ذلك التحفظ الذي نجده عند زيارة المدن، لقد كانوا يمشون خلفنا، وحينما نسألهم عن شيء في القرية، يجيبون والابتسامة تزين وجوههم الجميلة.
التقطت عددًا من الصور للقرية وللفريق داخلها عند الأبواب القديمة والمداخل المقوسة، ولا أنسى علم "فلسطين" الذي كان رفيقنا في هذه الرحلة، كنوع من التضامن مع هذا الشعب الصامد والصابر الذي يواجه جرائم إبادة جماعية من قبل العدو الصهيوني، أمام مرأى ومسمع العالم.
في القرية، لفت نظري كثرة العقود المقوسة عند مدخل كل بوابة في القرية، ولعل ذلك كان سببًا في تسميتها بـ"المداور"، كونها تأخذ نصف شكل الدائرة من الأعلى.
النساء والحقل
احد الحقول في قرية "المداور القديمة" (النداء)
بعد أن خرجنا من الباب الشمالي لقرية "المداور" القديمة، أكملنا طريقنا نحول قرية "حلال" التابعة لمديرية بني مطر، وصادفتنا في الطريق إحدى البرك التي كانت تحتوي على المياه الراكدة، جلس بعض أعضاء الفريق قليلًا على حافتها، وبالنسبة لي حاولت كسر الخوف الذي ينتابني، ونزلت عبر درج البركة إلى الأسفل، وطلبت من أحد الزملاء التقاط صورة لي هناك، لأتذكر أني كسرت حاجز الخوف من البرك يومًا ما.
ثم واصلنا الطريق الممتلئ بالأتربة والحجارة والحصى، والذي توجد على جانبيه بعض الحقول الخضراء، إلى أن وصلنا إلى إحدى الأشجار الكبيرة، وهناك أخذنا قسطًا من الراحة تحت ظلها. جلسنا مقابل أحد الحقول، وما لفت نظري أثناء المشي أنه وفي معظم الحقول التي مررنا منها، كان للمرأة التواجد الأكبر في العمل، منذ الصباح الباكر. أكملنا الطريق، ثم وجدنا حقلًا آخر تعمل فيه أربع نساء، نزلت أنا وبعض أعضاء الفريق إليهن، كان الغرض هو الحصول على بعض "الجُزر"، ولكن لم ينتهِ الموضوع عند هذا، بل طلب مني بعض أعضاء "الهاش" محاولة حصاد "الجُزر"، كما تفعل النساء، فقمت بأخذ "المعول"، وحاولت فعل ما تفعله المزارعة. كان المعول ثقيلًا على اليد، وبالكاد كنت أحفر بجانب الجزر ليسهل عليَّ اقتلاعه، والحمد لله اقتلعت عددًا قليلًا، بعكس ما تقوم به المرأة العاملة في الحقل، حيث تستطيع، وبضربة واحدة، اقتلاع مجموعة كبيرة من الجزر، وهذا ما يميز المرأة الريفية القوية التي تعمل لساعات طويلة في الحقول تحت أشعة الشمس، مستخدمة كل أدوات الزراعة البدائية.
محاولة إقتلاع الجزر من احد الحقول(النداء)
بعد أن أنهيت تجربة الحصاد، وبدأت بتوديع النساء، نادتني إحداهن، وعرضت عليَّ الكرنب (الكوبيش)، ولكني شكرتها لعلمي أنه سيكون ثقيلًا، وأنا بالكاد أستطيع حمل حقيبة ظهري، عندها طلب منها أحد الأعضاء أن تحضر له واحدة، فأحضرت اثنتين (لقد أخجلتنا كثيرًا بكرمها).
بعد أن أخذنا الجزر والكرنب، اكتشفنا أن أعضاء الفريق قد سبقونا في المشي باتجاه وادي "الصلايط"، فتولى بعد ذلك عضوان من الفريق أخذ الكرنب، وسارا به رغم ثقله مسافات طويلة.. في الطريق وجدنا عضوين آخرين يقومان بقطف "البلس الشوكي"، فمشينا معًا عبر الأراضي التي حصد بعضها. كما وجدنا شجيرات البطاطا التي تشتهر بها قرى "بني مطر"، وبقايا من ثمار البصل والثوم، استمررنا في المشي حتى وصلنا إلى الوادي، وهناك أخذنا قسطًا من الراحة، أكلنا فيها ما جنيناه من طيبات الأرض من جزر وكرنب وتين شوكي، الذي كان بلذة السُّكر، كما قمنا بتعبئة عبوات الماء الخاصة بنا، بعد أن أشرفت على الانتهاء، ثم أكملنا طريقنا عبر وادي "الصلايط" المحاذي لجبل "حلال بني مطر"، هناك كانت تنتشر الحقول والأشجار، كما واصلنا سيرنا بمحاذاة قرية "قلاض"، وهناك وجدنا في الحقول النساء وهن يرعين الأغنام، كل مجموعة من الأغنام لها راعيات، بعد ذلك استمررنا في المشي، ثم نزلنا من بين الحقول، قفزنا من حقل إلى آخر (وكالعادة كان نصيبي من الشوك كثيرًا)، حتى وصلنا إلى أرض مزروعة "خس وكبزرة وبطاطا"، وكان صاحب الحقل شخصًا راقيًا في تعامله، ولديه طفل صغير كان يخجل كلما سألته عن اسمه.
التقطنا صورًا وسط الحقل، ثم أكملنا طريقنا بعد أن ودعنا الفلاح، ومشينا تحت أشعة الشمس والغبار، وتجاوزنا أحد السياجات بمساعدة بعضنا
سد المنجر (النداء)
البعض، وكانت وجهتنا سد "المنجر"، كان الطريق طويلًا، والشمس ترسل أشعتها فوق رؤوسنا، والأحجار تمارس هواية التدليك الصيني لأقدامنا. وبينما نحن في الطريق أخذنا قسطًا من الراحة تحت شجرة كانت الوحيدة في تلك المنطقة، ولم تتجاوز راحتنا الثلاث دقائق، ثما أكملنا الطريق متحملين حرارة الشمس وتصحر الأرض وخبث عصابة الأحجار والصخور والأشواك.
أخيرًا، وبعد أن قطعنا كل تلك المسافة إلى سد "المنجر"، صعد أعضاء الفريق إلى السد، إلا أنا بقيت في الأسفل، وكانت صدمة الفريق أنهم لم يجدوا فيه سوى مياه راكدة، وهنا تبخرت كل آمالهم في ممارسة هواية السباحة، فاكتفوا بالتقاط صور لهم على السد بمعية علم الدولة الفلسطينية.
صخرة يظهر على واجهتها باب وتحتوي على غرفة صغيرة ( النداء)
بعدها مشينا، وكان التعب باديًا على أعضاء الفريق؛ بسبب أشعة الشمس والتراب والرياح التي كانت تباغتنا من وقت لآخر، حتى وصلنا إلى الخط الإسفلتي لطريق صنعاء -الحديدة، وهناك رأينا صخرة كبيرة بها فتحة أشبه بالباب تؤدي إلى غرفة صغيرة داخل الصخرة، التقط أعضاء "الهاش" الصور داخلها وبقربها، ثم اتخذ الأعضاء خط العودة إلى المنازل. كانت المسافة التي قطعناها مشيًا على الأقدام 20 كيلومترًا، بمشاركة 16 مشاركًا.