"إن التدخل الخارجي لا يفضي فقط إلى خراب الأبنية، وهذا مقدور عليه زمنيًا وماديًا، ولكنه مولد لما هو أخطر من ذلك، وهو خراب النفوس والعقول التي لا يمكن أن تنصلح -إذا ما انصلحت- إلا عبر عقود طويلة من عمر الشعوب والمجتمعات، ولنا عبر وشواهد وأمارات عديدة دالة على سطوة الذاكرة وإرهابها، ولنا عبر دامغة كذلك في ما حصل في فيتنام ويوغسلافيا سابقًا وكوسوفو خاصة، وفي العراق وسوريا واليمن، من دمار وتمزيق لوحدة المجتمع الجغرافية والمادية..
إن الاستعانة بالخارج تفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى والمجهول، ففي ليبيا مثلًا، قد يكون حلف الأطلسي منع ارتكاب َمجزرة، ولكنه -في مقابل ذلك- خلق وحشًا كاسرًا لا أحد يتكهن بجرائمه، ولا أحد يدعي القدرة على السيطرة عليه، إنه وحش التشدد المسلح". عالم الاجتماع التونسي المنصف وناس.
في 6 ديسمبر 2015، استهدف موكب محافظ عدن اللواء جعفر محمد سعد، بسيارة مفخخة أودت بحياته َمع مرافقيه، وكانت الصدمة مهوولة والفاجعة مريعة، والخسارة لا تعوض بالنسبة لمدينة منكوبة عاثت فيها المليشيات فسادًا وخرابًا.
ولتبيان فداحة الخسران وتداعياته الوبيلة حتى اليوم، يتوجب إلقاء بعض الضوء على سيرة وصورة الراحل، وعلى خلفية وملابسات الرجة العنيفة التي ضربت المدينة في ذلك اليوم الأسود، ومازالت تعيش على وقعها.
لقد انعقدت آمال ورهانات أهالي وشباب عدن عليه، لأنه ابن المدينة وعاشقها حتى النخاع، فهو من مواليد الشيخ عثمان 1950، وفيها ترعرع وتلقى تعليمه الأساسي، ثم التحق بالجيش عام 1967، وفي العام 1969 سافر إلى موسكو للدراسة العسكرية، وهناك أكمل البكالوريوس، كما أكمل الماجستير.
لقد تدرج جعفر ميدانيًا كقائد عسكري، وتألق أكاديميًا، وبرز في مجال الأبحاث والدراسات ذات الصلة بالشؤون العسكرية والأمنية والاستراتيجية.
وعلاوة على تألقه كقائد عسكري وباحث وخبير متميز في مجال اختصاصه، فقد كان ناشطًا مدنيًا وحقوقيًا مؤثرً، وهو من مؤسسي المنظمة اليمنية للدفاع عن الحقوق والحريات، 1989.
في صيف عام 1994، كان من القيادات العسكرية التي قاومت غزو جحافل القوات العسكرية والمليشيات المتطرفة القادمة من الشمال لاجتياح عدن، ودافع عن مدينته إلى آخر لحظة، وغادر إلى الخارج، ولم يعد إلا قبل أن يبدأ "التحالف" عملياته العسكرية في مارس 2015.
ومع انطلاق العمليات، كان ضمن القوام القيادي لغرفة عمليات "تحرير عدن"، وقد كلفه الرئيس السابق -الأسير حاليًا في الرياض- بقيادة عملية تحرير المدينة، التي تكللت بالنجاح في َمنتصف يوليو 2015.
في 9 أكتوبر 2015، صدر قرار تعيينه محافظًا لعدن، ورغم جسامة المهمة وضخامة التحديات وخطورتها في مدينة دمرتها الحرب، وآلت إلى غابة تعج بالمسلحين من كل شاكلة ولون، وتختنق بأكداس مخلفات الحرب والنفايات والأنقاض وطفح المجاري وكل مكونات طاعون الكارثة البيئية التي شكلت التحدي الأول، كان عليه أن يكون المبادر الأول في النزول إلى الشارع لتنظيف المدينة.
من أول وهلة لاحظ الناس اقتران الأقوال بالأفعال في جدول يوميات الرجل، وجدية توجهه في إضفاء المعنى على "التحرير" بتطبيع الحياة وإعادة خدمات الماء والكهرباء، وتأهيل المرافق والمؤسسات المعطلة، ووضع كل الملفات الحيوية على الطاولة، وليس تحتها، والخوض في حوارات مع كل الأطراف في المدينة، لتسهم بدورها في معترك إعادة الإعمار.
ولأنه يحمل مشروعًا واضح العناوين، يتغيا إعادة وضع عدن في الصدارة، فقد التف حوله معظم أهالي المدينة، ورحبوا به وهو يجوب الأحياء والمرافق، وينصت لأنينهم وشكاواهم، ويشاركهم الهم والألم، ويتعاطى معهم بشفافية، مشددًا، باستمرار، على أن التحرير لن يكتسي أي معنى ما لم يمتلك الناس مصيرهم وكلمتهم وقرارهم، وما لم تستعد عدن دورها بسواعد وعقول أبنائها.
لقد اعتمد على مورد الطاقة البشرية التي تختزنها عدن، وعلى شباب المدينة الذين اجترحوا مأثرة المقاومة على نحو أذهل العالم، كما فاجأ وصدم وأوجع الغزاة الذين تكبدوا أفدح الخسائر على يد "عيال التمبل والسوكة"، ومن شباب المقاومة هؤلاء اختار جعفر مرافقيه وحراسه.
لا شك أن هذا التوجه الذي أحرز نجاحات كبيرة في زمن قياسي، لم يعجب البعض فحسب، بل أزعجهم تمامًا، لأنهم لا يريدون لعدن أن تعود إلى َمنصة الريادة، والأسوأ أنهم لا يريدون أن تأتي هذه العودة أو الاستعادة من قلب المدينة.
لقد كانت العيون شاخصة على المنصب الذي لم يكن عيدًا بالنسبة لهذا الرجل الذي اعتجن بالمحن، ووجد نفسه في خضمها بعد تسنّمه منصب المحافظ مباشرة.
وفي يوم تعيينه اغتيل القاضي عباس حسين عقربي، أمين سر المحكمة الجزائية، بجوار منزله بمدينة الشعب، وعلى مقربة من مسرح جريمة القاضي، اغتيل العقيد جمال السقاف، مسؤول الرقابة والتفتيش في المنطقة الرابعة، وفي ظل تصاعد موجة الاغتيالات والتفجيرات، توجب عليه أن يكون في مقدمة مواكب التشييع والحداد والعزاء، وأن ينهض فجر كل يوم ليواصل مشوار إعادة لَملَمة أوصال المدينة، واحتواء التململات وتهدئة الخواطر والانفعالات و... يا لها من مهمة سيزيفية قاصمة للظهر.
ولكن... على الرغم من ارتفاع منسوب المخاطر والتهديدات، إلا أن الرجل لم يتراجع، ولم يتقوقع، بقدر ما واجه المخاطر بشجاعة وإقدام، واستمر في مزاولة عمله ميدانيًا، في الغالب، فقد تكالبت عليه المنغصات والابتزازات العدوانية في مكتبه، وتجرأ عليه بعض الزعران والبلاطجة والسوقة، واعترضوا سبيل موكبه، غير مرة.
بالمفتوح، كانت هنالك جماعات داخلية وخارجية ترى في عدن غنيمة حرب، وترفض القبول بفكرة أن يدير المدينة واحد من أبنائها، فما بالكم لو كان هذا الابن يجاهر بتوجهه الهادف إلى إنعاش المدينة، وتجديد ذاكرتها وعمارتها، ورفع مستوى منوالها التنموي، وإعادة اختراعها بنسخة تعانق معطيات الألفية الثالثة.
الحاصل أنه مع تزايد شعبية الرجل، كانت حملات التشكيك والتشهير والتشويش عليه تتزايد من قبل "الفلول" و"الإخوان" وبعض القياديين الحراكيين المزايدين والمتعطشين إلى "الكرسي"، والمستعدين للقتل في سبيل "الكرسي".
كان "التحالف" على إحاطة بما يجري، وهو يملك من الإمكانيات المادية والتقنية والاستخبارية، ما يكفي ليس لحماية الرجل الذي صار في مرمى الاستهداف فحسب، بل ولدعم بناء شبكة أمنية وقوات أمن داخلي بالاعتماد على كوادر المدينة المركونة في البيوت، وعلى شباب المقاومة، وعدن زاخرة بالكفاءات والخبرات الحبيسة داخلها، والمنتشرة في أرجاء العالم.
لقد تركوه وحيدًا يواجه مصيره التراجيدي، وحيدًا إلا من رفقة محدودة العدد والقدرات، تمثلت بمجموعة من شباب المقاومة في عدن، ذوي الخبرة الطرية التي لا يعوضها الحماس المتأجج.
ومن واقع الخبرة المرة اتضح أن "التحالف" لا يريد التعامل مع أية شخصية تتمتع بهامش من الاستقلالية واحترام الذات، فهو يريد عملاء ومرتزقة بأبخس الأثمان، ويميل إلى الاستثمار في المليشيات والسجون الخاصة أكثر من ميله لتأهيل وتنمية عدن.
قبل جريمة الاغتيال، وصلت حملات التضييق والملاحقة لمحافظ عدن، إلى ذروتها، إذ قطعت على منزله الكهرباء أكثر من مرة، وفي الساعة الخامسة عصرًا من اليوم السابق للاغتيال، قطعت جميع الاتصالات على المنزل، بما في ذلك خدمة الهاتف الأرضي الإنترنت، وبعد فحص وتحقيق اتضح أن الخدمة لم تنقطع عن جميع المنازل والمحلات المجاورة لمقر إقامة المحافظ... وحسب إفادات مصادر مقربة منه وأقارب زوجته، فإن معشر الوكلاء والمدراء الذين كان من المقرر أن يصلوا إلى منزله صباح يوم الجريمة، ليرافقوه في جولته المعتادة، تخلفوا عنه، ولم يظهر بعضهم إلا بعد ساعة من الانفجار، إذ هرعوا إلى منزله ليشاركوا في نهب ما فيه من وثائق وأموال. ونوهت المصادر إلى تورط مرافقين ووكلاء ومدراء في وزارة الاتصالات بعدن.
من جانبه، أوضح الأستاذ والزميل الراحل نجيب يابلي، أن "الحادث سياسي بامتياز"، مشيرًا إلى أنه "صنيعة استخبارات خارجية وصنائعها المحليين" أو "مرتزقة الجنوب" (صحيفة "الأيام، 6 أغسطس 2017).
كان بمقدور "التحالف" -لو أراد- بما لديه من إمكانيات مهولة، أن يبرهن على جديته بمباشرة التحقيق وملاحقة القتلة، ولكنه في تلك اللحظة، تحديدًا، أسفر عن نزعة احتلالية همجية وانتقامية تجاه عدن التي ارتكبت، في زمن مضى، أحلامًا تفوق قدرتها على الاحتمال، عندما أخذت على عاتقها مهمة إسقاط عروش الممالك والإمارات المجاورة، وحينما كان لديها ميناء عالمي شهير قبل أن تولد تلك "الإمارات".
لقد كان البديل المتربص جاهزًا، وفي اليوم التالي حطت الطائرة القادمة من مطار أبوظبي، بمطار عدن، وهي تحمل المحافظ الجديد عيدروس الزبيدي، وَمعه مدير الأمن الجديد شلال شايع الذي صرح بعد شهر أنه تم إلقاء القبص على قتلة جعفر، ولم تظهر أية صورة لأي قاتل، كما لم تظهر نتائج التحقيق إلى اليوم.
كان بميسور "التحالف" إعادة الاعتبار لعدن بتمكين أهالي وشباب المدينة من إدارة مدينتهم أو "العاصمة المؤقتة"، وهم الأجدر والأكثر كفاءة في الجنوب واليمن عمومًا، لكنه اقتفى أثر الرئيس السابق هادي الذي قام باستقدام "زمرة" من الجماعات المسلحة من محافظته أبين، حملت اسم "اللجان الشعبية"، وكانت تنضوي فيها قيادات سابقة "تنظيم القاعدة"... على غرار هادي، وبالاتجاه المعاكس، استقدم "التحالف" ودعم "طغمة" من الجماعات المسلحة التي كانت متحصنة في قراها بالضالع، وكان يعلم أن فيها قيادات تدربت على حرب المدن بالضاحية الجنوبية ببيروت.
وبين هذا وذاك، توزعت عناقيد الجماعات السلفية الجهادية التي اندحرت من صعدة بعد حرب طاحنة في "دماج"، وعلى هذا النحو جرى تفخيخ المدينة وتفجيرها في أكثر من مواجهة دامية وحرب، بإشراف ومشاركة "التحالف"، وصولًا إلى وضعها في حالة حرب مستدامة.
ولئن تباهى التحالف بأنه دحر المليشيات بليل، في منتصف يوليو 2015، فقد دعم هيمنة المليشيات القريبة على المدينة، وجميع المليشيات القريبة
والبعيدة، تتميز بعدوانية الغراب الهندي القادم من تجاويف مسغبة، ومن خارج السلسلة الغذائية للمدينة، ليزعق وينقم ويقضم ويحيل الفضاء العام بالمدينة إلى خرابات وخردة تحت نظر وإشراف التحالف.
بعد اغتيال اللواء جعفر محمد سعد، تعرضت عدن لأكبر عملية سطو واستباحة طاولت معالمها وذاكرتها، ولم تنجُ صهاريج عدن ولا المتحف الحربي ولا جزيرة صيرة ولا حرم الَميناء ولا المعابد والمدارس والشواطئ والمتنفسات و... الخ.
وتعرض شباب المقاومة للتنكيل والتهميش والتشريد، وكانت كل مبادرة تتوسل إنقاذ عدن، ولو على استحياء، تتعرض للبطش الشديد.
إن ما تعرضت له هذه المدينة، أسقط كل أكاذيب "التحالف" الذي كان أعلن في أبريل 2015، عن عملية إعادة الأمل، وتبين في وقت لاحق، أن الهدف المنجز هو إبادة الأمل، وإخراج عدن عن نطاق التغطية، إخراج مرافقها الحيوية عن نطاق الخدمة، كالميناء، وإطفاء شعلة المصافي.
وفي يوم الناس هذا، تشهد المدينة تخندقات واستقطابات حادة بين وكلاء الإمارات والسعودية، وليس ثمة ما يشير إلى إمكانية لجم انفلات جولة جديدة وتسونامية من الحرب، تشبه تلك التي تحرق الخرطوم وتمزق السودان.