خاطب أحدهم، ذات مرةٍ، جِلَّةً من علماء اليمن، قائلاً: أنتم -يا علماء صنعاءـ وضعتم أنفسكم، بالسكون فيها، في مضيَعة! مشيراً بذلك إلى عزلة صنعاء عن حواضر الثقافة العربية الرئيسة، ومراكز الشهرة والذيوع فيها. ولئن قيل ذلك عن صنعاء وهي حاضرة اليمن وقلبه، أي أقرب ما فيه إلى تلك الحواضر والمراكز، فكيف بعدن، وهي ثغره القاصي الذي ظُنَّ يوماً أنه منتهى الأرض، فقيل: كلا، ولكن منتهى اليمنِ؟!
والمعنيُّ بهذه السطور، من أبناء عدن التي ولد فيها تجسيداً لروح اليمن بجُلِّ مكوناتها الرئيسة التي صاغته من أبٍ ظفاريٍّ، زيدي المذهب، قدم من صُهبان في مرتفعات اليمن الوسطى، وأمٍّ تهاميةٍ، شافعية المذهب، قدم والدها من حيس في سهول اليمن الغربية، إلى عدن، حيث انعقدت حياتهما، وأثمرت: جعفر عبده صالح الظفاري الذي اتصل مقامُه فيها طوال سنيِّ التشكل الأساس، فتدخلت فيه بكل ما في بيئتها وأحوالها ـأوانئذٍـ من عوامل التأثير الثقافي في ذوي النجابة من ناشئتها، ليعتضد بذلك الموروث والمكتسب، في التهيئة لإعداد أحد أجل علماء اليمن المعاصرين، وأول من جسد في ثقافتها الحديثة معنى «الأكاديمية» ومبناها، نظرياً ونظراً، في ما قال، وما خط، وما فعل.
رُبَّ مُعقِّبٍ بأن: عوامل العزلة التي أشار إليها ابن هُطيل ذاك منذ سبعة قرون، لم تكن قائمةً في القرن المنصرم كما كانت أيامه، خصوصاً بالنسبة إلى عدن خلال العقدين الأخيرين من استعمارها، حين كانت أكثر مدائن اليمن اتصالاً بالعصر!
بيد أن ذلك الحين ـمن عمر أستاذنا المولود في 1936ـ يندرج ضمن سني التأسيس والتشكل. فقد شاءت السوانح أن يكمل سنوات دراسته الثانوية عام 1956، وأن يأتيه بُعيدَها نبأ ترشيحه للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت وهو يمارس مع أترابه اللعب بما هو متاح لأبناء الأسر البسيطة الحال مادياً من كادحي عدن. وما كان لمثل تلك الفرصة أن تتاح لمثله لولا أن انتزعها انتزاعاً بتفوقه الفذ في تحصيله والذي رافقه طوال سنوات دراسته الجامعية في بيروت حتى ابتعاثه لنيل الماجستير في جامعة لندن، حيث أشرف عليه العلامة المستعرب سارجنت واقترح له موضوع أطروحته، ثم أمر -بعد الاطلاع على مقدمة الأطروحةـ أن يرفَّع بحثه إلى مساق الدكتوراة التي كان -فيما نعلم- أول حائز عليها من أبناء جزيرة العرب المقيمين فيها. وكان موضوع رسالته عربياً يمنياً في غاية من الأصالة واليمنية هو «الشعر الحميني» الذي دفع به على التطواف بين بعض من أهم مكتبات العالم، بدءاً بالمُتحَف البريطاني وجامعة أكسفورد حتى جامع صنعاء الكبير، وميلانو، وليدن، ملتهماً من مخطوطاتها كل ما له صلة ولو بعيدة بموضوع رسالته.
ولعل ذلك البحث والتطواف من أظهر الأسباب التي مكنته من تمثُّل روح اليمن وتاريخها وثقافتها تمثلاً يخالط منه الدم في مجاري الجسد. وهو بالطبع ممسك بناصية اللغة الإنجليزية التي حبر بها تلك الرسالة التي ننتظر استكمال ترجمتها وإعدادها للنشر في كتاب، إلى جانب شمولية ثقافته العربية الإسلامية الموسوعية الضاربة في كيانه وشخصيته. فالإسلام جوهر هذا الرجل، والعربية كيانه الذي هو قبس من عبقريتها. وأشهد أنني تعلمت كثيراً، وأتعلم دائماً من كل ملتقى به ومن كل سطر تخطه يده الكريمة الحرِيَّة بالتقبيل.
أعود إلى ذلك المُعقِّب المفترض لأذكر أن عودة الظفاري بالدكتوراة إلى عدن كانت في 1966، أي أن مستهل عهده بالعطاء العملي كان عشية انقضاء عهد الاستعمار في مدينته ومحمياتها. لكنها لم تتكامل مع محيطها الطبيعي من كل بلاده لأسباب عديدة ليس هذا مقام التطرق إليها؛ بل انحازت بها دوافع السياسة الضيقة وأحوالها، شيئاً فشيئاً، حتى ألقت عليها عزلة أنكى من تلك المشار إليها آنفاً في قول ابن هطيل.
وما كان لرجل تلك صفاته أن يضيق حتى تسعه جماعة محددة أو حزب بعينه، فهو بذاته: وطن. ولم يكن المقدم من اهتمامه سوى أن يسخر كل إمكاناته لخدمة هذا البلد الذي نشَّأه وتلك المدينة التي كانت «أول أرض مس جلده ترابها». وبدهي أن تكون التربية والتعليم همه وشاغله النبيل الذي ارتضى المجاهدة في سبيل القيام بما يمكنه من دور فيه وذلك عند بدء التوسع في نشر التعليم، موطِّناً نفسه على احتمال ما قد يكره.
وكان ثمة كوىً تستثنى في جدار ذلك الزمن أتاحت له المضي في غايته، إلى جانب خصائص ذاتية جداً أظهرها: إخلاص لرسالة، وتفانٍ في أدائها لا تستشف السياسة القائمة منه ضراً؛ بل نفعاً، وإن لم تكن مقصودة به، واعتداد بالنفس، وصلابة يمتاز بها العالم الأصيل الذي «يدري ويدري أنه يدري»؛ مما يفرض احترامه حتى على المستريب أو الشانئ. فضلاً عن زهد نادر وسلامة من الآفات، ومن أي ميل لرياح السياسة، مع ميل كلي للبلاد وأهلها الذين لأجلهم تحمل الجوهريَّ والثقيل من أعباء التربية والتعليم من محو الأمية، والتعليم الأساسي والثانوي، حتى إسهامه الحيوي الجليل في تأسيس أول كلية جامعية في البلاد وهي كلية التربية العليا بعدن التي وضع لوائحها وتولى كثيراً من المهام فيها، إدارة وتدريساً؛
إذ أُسندت إليه -بالإنابة- مهام عمادتها؛ فافتتحها بكلمة جديرة بالعودة إليها دائماً للتأمل والاستهداء؛ ثم إسهامه الأبرز عند إنشاء جامعة عدن التي قبل النيابة الأكاديمية فيها استجابة للحاجة الملحة إليه في تأسيسها، ثم تولى -فيما بعد- مهام رئاستها، تكليفاً دون تعيين أيضاً، متحملاً أهم أعباء ذلك التأسيس، ومنصرفاً كعادته عن قشور المناصب التي ارتضى دائماً أن يكون له منها النَّصَب دون اللقب، فنبل الغاية لديه يهون مما في الوسيلة من مكابدة؛ كما إن الإحساس بالرضى الناشئ عن أداء الرسالة ليس يدانيه عنده شيء.
على أن ذلك الدور/الرسالة الذي اضطلع هذا العالم الجليل بأدائه، فأسدَى به أنصع الأيادي على أجيالنا، قد استنفذ من وقته وجهده ما حدَّ كثيراً -للأسف- من إسهام فكري لا نظير له، يدل على نوعيته ما نجده منشوراً -في أعداد من مجلة "الثقافة الجديدة" و"الحكمة" صادرةٍ في السبعينيات- من دراسات في تاريخ اليمن والمجتمع اليمني تروع القارئ بفرادتها إحاطةً ودقة، وعمقاً وجرأة، في البسط والتحليل، وجدة في الاستنباط، ناهيك عن أسلوبٍ ظفاريٍّ محض؛ يدل على كل ذلك بحثه الأخير في «هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة في تهامة» المقدم منذ أيام في ندوة مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن، الذي يديره الدكتور ويرأس تحرير مجلته منذ أن أصدر أول أعدادها عام 1988، وسماها: مجلة (اليمن). وفي هذا السياق، أتمنى لو يتمكن الأستاذ من إنجاز بعض مما قد جمع مادته من دراسات تنتظر أن يستكملها؛ وأهمها دراسة عن «الشخصية اليمنية».
وبعد:
ألست محقاً في قولي عنه أن اليمن يخالطه، حتى لا يجد سوى الشعور بأنه -بسكونه فيه- قد أقام نفسه في مقامها وليس في مضيعة؛ وإن لم ينل ما هو حقيق به مما لا يستهويه أصلاً؟
*من كلمة للكاتب ألقاها في حفل تكريم الظفاري
صنعاء، ديسمبر 2002.