إبّان الدولة الرسولية ازدهرت الكثير من الفنون الإبداعية، لا سيما المعمارية التي عكست الصورة الحضارية والجمالية التي عمل عليها الرسوليون طوال فترة حكمهم، فإلى جانب الكثير من تلك الإبداعات الواصلة إلى معظم مناطق نفوذ الدولة، برزت "القباب" أو ما يطلق عليها الكثيرون "المآذن"، كسمة رئيسية للتصوف الذي لا تذكر دولة بني رسول التي اتخذت من تعز عاصمة لقرارها، إلا ويذكر "التصوف" كهوية لها،
حيث لاتزال الكثير من تلك القباب موجودة وشاهدة على ذلك التاريخ والحضور الكبير الذي لم يكتفِ بمنطقة واحدة، بل تجاوز حدود محليته، والذي ظل مستمرًا حتى يومنا هذا في معظم القرى والأرياف اليمنية، وبخاصة أرياف منطقة "الحجرية" التي طال الكثير منها الأذى المتعمد وغير المتعمد، فبعد انتهاء حكم الرسوليين وتعاقب الزمن تمسك عدد كبير من المواطنين المحبين للتصوف كفكر وكطقس، فاستمروا بالذهاب لتلك "المآذن" المبنية وفقاً لمعايير هندسية وفلكية وبطريقة إبداعية، حسب تحليل خبراء مختصين، باحثين منها عن حلول لمشاكلهم المتعددة.
ففي فجر كل صباح كانت تكتظ ساحة المئذنة بهؤلاء المحبين وأتباع "الصوفية"، الذين يصحبون معهم بعض الهدايا الرمزية كالشمع والورد وغيرها للتقرب من "الوليّ"، الذي يختلف اسمه من منطقة إلى أخرى، حيث ارتبطت كل "قُبة" باسم أحد هؤلاء، فهي مسكن لشخص غادر الحياة جسدًا، ولكن روحه باقية تعيش في مخيلة محبيه، وساكنوها ليسوا كالبقية، بل يطلق عليهم ويتم مناداتهم بأولياء الله الصالحين الذين مُنحوا كرامات لم يحصل عليها البشر العاديون، فاستمر كلٌّ حسب "الوليّ" المتواجد بمنطقته المحددة، يستقبلُ أحبابه ومريديه بأوقات محددة، لا سيما يوم الخامس عشر من شعبان، وهو يوم "الشعبانية" الذي تشهد فيه تلك الأماكن توافدًا كبيرًا حافظ عليه المواطنون والمحبون لعشرات السنين، لكن ذلك أزعج الكثيرين، خصوصًا مع تسرب أفكار دينية تبنتها جماعات لم يرق لها استمرار التصوف، فشرعوا بتحريض المجتمعات على العزوف عن الذهاب والاهتمام بأية "قُبة"، ولم يكتفوا بذلك وحسب، ليلجأوا إلى تخريب الكثير منها تحت دعوى وفتوى أنها تدخل من ضمن الإشراك بالله.
فلم يسلم منها إلا القليل، والتي طالها أيضًا التخريب والاعتداء بحُفر عميقة من قبل أشخاص يعتقدون أن هناك أموالًا كانت تدفن بداخل القبر الذي يتوسط ساحة أية واحدة منها.
تلك الهوية لم تكن مقتصرة فقط على حقبة زمنية معينة حُددت بـ"الرسوليين" وحدهم، بل يعتبرها اليمنيون حتى يومنا هذا معلمًا تاريخيًا يكاد يندثر إذا لم تتدخل الجهات المعنية، وتسرع في الحفاظ على ما تبقى منها، وتععمل على حمايتها.
ارتباط ونشوء كل قبة بحكاية مختلفة
مع كل "قبة" قصة وجودية يسطرها أهالي المنطقة بتفاصيلها الدقيقة، والتي توارثوها عبر الأجيال، ناقلين أحداثها، وكيف كانت تكتظ بالزائرين، أو من يسمونهم "المتبركين"، ولكنهم اليوم يشكون عزوف الجيل الجديد الذي يرفض تصديق تلك الحكايات، معتبرًا إياها ضربًا من الخيال الذي لا يتقبله العقل.
فإلى جانب قبة الشيخ والفيلسوف أحمد بن علوان، مهندس الصوفية ورائدها في اليمن، والصامدة حتى يومنا هذا، لايزال الكثير من ذلك الفن المعماري البديع باقيًا بأجزاء منها، كقباب "جار الله في منطقة بني عباس -سامع، الواصل عددها إلى سبع، ومئذنة ابن علي الغريب في قرية الأصيلع -بني حماد، وقبة الشيخة روضة بقرية "الكبة" -مديرية المواسط، وغيرها بمناطق متعددة، فارتبطت والتصقت حكايات بكل واحدة منها، ومنها حكاية لاتزال عالقة بذاكرة أغلبية سكان المنطقة.
ومن تلك المرويات قصة "قبة" الشيخة روضة، التي تكشف أحداثها فكرة إنشاء مكانها، إذ لايزال أبناء المنطقة يرددون ذلك بين فترة وأخرى، وإليكم ملخصها:
ذات صباح خرجت روضة الطفلة تلعب مع بقية الأطفال، وكنّ جميعًا يحفرن دوائر كبيرة، بانتظار المطر يأتي ليملأها، فصاحت روضة متحدية الجميع بأنها ستملأ حفرتها من دون مياه الأمطار، فشرعت بحفرها حتى اكتملت، وسرعان ما وضعت إصبعها بداخل الحفرة، وفجأة يتفجر الماء بغزارة واصلًا إلى سائلة الوادي، فعرف أبوها، وهو الشيخ المتصوف علي الرجبي، وهو أحد الأولياء، بما فعلته ابنته، فأسرع إليها، وحين وصل قال لها عبارته:
كشفتي سرّك يا روضة، هنا سيكون قبرك.
فقام برفع يده نحو السماء، داعيًا بتوقف الماء، حتى توقف فجأة، ومعه توقفت دقات قلب ابنته الوحيدة، فماتت مباشرةً، ليقوم بتحويل مكان تلك الحفر إلى قبةٍ كنوع من التخليد لها.
مقاومة ذاتية حتى انتظار المنقذين
لاتزال هذه القبة صامدة، وإلى جانبها قلة من أخواتها، رغم الخدوش الكثيرة التي طالتها، وكأن لسان حالها يقول:
أنا شاهدٌ تاريخي ومعلم حضاري لأكثر من أربعمائة سنة، أنا أقدم من كل البشر السيئيين الذين أحاطوا بمنزلي، ولم يحترموا قدومي الأصيل الذي سبقهم، إنني قبة تنحدر معالمي إلى أيام الدولة الرسولية، ولا أزال باقيةً في أذهان الكثير، فقد عشتُ قديمًا بين أحبائي الذين كانوا يأتون إليّ، فنتبادل المحبة، ونعيش الألفة التي يفتقدها الكثير يومنا هذا، كان أحبابي يفتحون بابي الصغير بكل هدوء، ثم يضعون الشمع على حواف بيتي، فأحس بدفئهم، وكنت لا أبخل على كل غريب يقتحم بابي، آخذًا هدايا أحفادي المتنوعة لثقتي بمن بقيت من أجلهم بأنهم سيأتون إليّ بكل ما أحتاجه، فكيف لا، وأنا قريبة من مشاكلهم التي تزعجني أكثر منهم، ولكني لا أدري ما الذي جنيته بحق الذين كسروا بابي، وأقدموا على نبش قبري، لا خشب في بيتي، فكله مصنوع من الحجارة القوية، وكم تمنيت لو أن ينعكس نموذج بيتي على جيراني الذين بادروني بالشر.
وعلى الرغم من موقع منزلي المرتفع عن كل منازل القرى التي أحاطت بي، فقد بنيت على سفح جبل مرتفع يشرف على أغلبية المنازل، الشمس تسطع عليّ قبلهم، وحين تغرب أكون أنا آخر من تغادره، جدراني وتفاصيل بابي وكل شيء رسمت وفق معايير فلكية وهندسية نفذها أقاربي، ولكن كل ذلك لم يشفع لي، فمازلت أتعرض للاعتداء، فمن سيخلصني من كل هذا العبث، كوني لا أستطيع الصمود لأكثر من هذا الوقت، وأنا ضعيفة ومهترئة أمام الأمطار الغزيرة والرياح العالية التي تأخذ ما تبقى مني بعد أن هشم جسدي من كنت أعتقد أني سأقوى بهم، وبوجودهم إلى جواري، فمن سيعيدني إلى ما كنت عليه؟ وكم سأنتظر..؟