ترتبط قصة الصحافة بالوحدة اليمنية في 22 مايو 1990. صعودها بلغ أوجه في سنوات الوحدة الأولى، حتى إن ربيع الصحافة اليمنية التصق بمناسبة قيامها. وانتهى باندلاع حرب 1994.
فرضت مقتضيات النظام السياسي لما بعد الحرب هامشًا للحريات السياسية والمدنية، بدأ محدودًا عقب حرب 1994، واتسع تدريجيًا حتى بلغ مستويات متقدمة في العام 2003 وما بعده، وسط ظروف محلية وإقليمية ودولية سمحت بهامش كبير في مجال الصحافة المقروءة.
يمكن سريعًا الإشارة لعدد من المتغيرات المحلية والخارجية التي ضغطت على نظام الرئيس علي عبدالله صالح، وفرضت عليه إرخاء قبضته على الحياة الحزبية والمجتمع المدني البازغ والصحافة. تبنت الولايات المتحدة باعتبارها الفاعل الأول، في العالم العربي، ما يسمى "الشرق الأوسط الجديد"، كمدخل إلى تكريس "الديمقراطية الليبرالية" و"السلام" و"قيم الليبرالية"، وأهمها حرية السوق وتشجيع المبادرات الخاصة وقطاع الأعمال و"حرية الصحافة"… لكن قبل ذلك كله وبعده الحرب على الإرهاب باعتبارها التحدي الأول حينها بعد احتلال العراق.
داخليًا كانت سلطة الرئيس (السابق) علي عبدالله صالح بدأت تتحلل بفشل كل المحاولات التعويضية في الجنوب، وتراخي القدرة التمثيلية في بعض مناطق الشمال. بكلمة أخرى فشل محاولات تعويض الحزب الاشتراكي جنوبًا، وازدياد قوة النموذج "الإيراني" لدى شباب إسلامي في صعدة ومحافظات أخرى اشتهرت تقليديًا باعتناق المذهب الزيدي. سيكون من المفيد التعمق في التوجهات الإسلامية لدى هؤلاء، وانتماء عدد منهم لـ"الإخوان المسلمين". هذا التطور (أو التراجع) في المؤثرات الظاهرة على شباب الظاهرة الإسلامية، تزامن وظهور علامات على تفكك تحالف السلطة التاريخي الذي انتصر في حرب 94، ثم، بعد حوالي العقد، قيام اللقاء المشترك الذي ضم إلى أحزاب المعارضة التجمع اليمني للإصلاح (شريك صالح منذ وصوله إلى السلطة في 17 يوليو 1978، عندما كان "الإخوان المسلمون").
فهم تنامي ثم سيطرة الحوثيين على صنعاء يقتضي تتبع مسار العلاقة بين الرئيس السابق صالح والإخوان المسلمين، فضلا على درجة شرعية النظام السياسي في المراحل المختلفة بعد الوحدة اليمنية في 1990.
في ربيع 2004 انتخب مجلس نقابة جديد للصحفيين، تمكنت فيه المعارضة والمستقلون من الحصول على قرابة نصف أعضاء المجلس.
وسط هذه الأجواء الإيجابية تقدمت إلى وزارة الإعلام بطلب ترخيص صحيفة "النداء"، وتم منحي الترخيص في 12 أبريل 2004، على أن يصدر العدد الأول من الإصدار الأسبوعي خلال 6 أشهر من تاريخ الترخيص.
كانت الأجواء في الظاهر مشجعة، لكن تبين بعد أسابيع من انتخاب مجلس النقابة أن السلطة متوترة بأكثر مما تصوره كثيرون في المعارضة والمجتمعين المدني والحقوقي، بل وفي السلطة ذاتها، أدواتها السياسية والشعبية أقصد! واتضح أن صالح يوشك أن يفقد تركيزه بفعل تهديدات متمثلة في قرصات "الحيات والأفاعي" التي تتحلق حول عرشه في صنعاء وشمالها الأدنى والأقصى، مع تململ الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر من نهج صالح الجديد بتركيز السلطة الفعلية في أقاربه (ابنه أحمد وإخوته وأبناء إخوته)، وإعلان حسين الحوثي العصيان، في تحدٍّ صريح للراقص على رؤوس الثعابين المتربع على كرسي "ملك حمير"!
نشبت حرب صعدة الأولى، واستمرت عدة أشهر، وانتهت بمقتل مؤسس جماعة "الشباب المؤمن" حسين بدر الدين الحوثي، في سبتمبر 2004.
بعد ذلك "النصر المؤزر" بشهر صدر العدد الأول من صحيفة "النداء". وفي اليوم التالي لتوزيع العدد تم إلغاء الترخيص وسحب العدد من الأكشاك والمكتبات!
بعد 5 شهور عادت الصحيفة للصدور بفعل تضامن واسع مع ناشرها، وبفضل أداء قانوني محكم لمحاميها الأستاذ نبيل المحمدي، أدى إلى صدور حكم بإلغاء قرار الوزارة الإداري بإلغاء الترخيص.
عند صدور العدد الأول لـ"النداء"، كان علي عبدالله صالح قد أنهى فعليًا التمرد ببوادر تمرد جديد سيظهر سافرًا في الثلث الأخير من مارس 2011، بانضمام علي محسن الأحمر باتفاق مسبق مع التجمع اليمني للإصلاح، لـ"ثورة الشباب"!
والذي حصل في 2004 أن دحر التمرد قاده قائد المنطقة الشمالية الغربية علي محسن الأحمر، مدعومًا بالتجمع اليمني للإصلاح الذي وفر تأييدا شعبيا في صعدة وفي المدن اليمنية ما استلزم من صالح رد الجميل بعطايا مادية فورية لقائد المعركة ومن وقف مع "الشرعية"!
وقد تبين لي بعد نصف عام أن إغلاق "النداء" جاء في هذا السياق.
ولاستكمال الصورة فإنني عندما علمت من الصديق الأستاذ عبده سالم، القيادي في التجمع اليمني للإصلاح، في منتصف مارس 2005، أن قرار الإغلاق الصادر، ولا جدال، من الرئيس صالح، تم نزولًا عند طلب من أمين عام التجمع يومها الأستاذ محمد اليدومي، استغرقت بعض الوقت لتقبل الأمر!
تذكرت يومها ما قاله لي صديقي نبيل الصوفي، قبيل مصادرة العدد بساعات… كان معجبًا بافتتاحية العدد الأول، مبديًا دهشته لجملة قالها اليدومي أو قيادي آخر في الإصلاح، حول دور صحيفة "الصحوة" أوردتها حرفيا في افتتاحية "النداء"! كان ردي أن على نبيل ألا يغفل أبدًا أنني سبق أن كنت في صحيفة حزبية اتعلم فنون العمل الصحفي واتقدم، قبل سنوات.
لماذا أستعيد هذه القصة الآن؟
لأن من حق الناس أن تعرف الظروف التي عملت فيها الصحافة الأهلية والحزبية قبل 2011، ذلك لإدراك أن القامع والمقموع كانا عابرين للمواقع التقليدية (سلطة ومعارضة)، فالقامع ليس دائمًا سلطة، مثلما أن المقموع قد يكون أحيانًا صحفيًا في صحيفة حزب يحكم أو يشارك في الحكم. ولقد يحدث أن يصدر حزب معارض بيانًا ناريًا ضد السلطة بسبب حكم قضائي جائر ضد صحفي معارض، فيما الحزب ذاته يمنع الصحفي من الكتابة في صحيفته!
لقد عاشت الصحافة اليمنية فترة قلقة في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس علي عبدالله صالح، وتقلبات مختلفة، لكن الأكيد أن هامش الحريات، خصوصًا حرية الصحافة، كان أوسع من أي وقت مضى، ولذلك كان اليمن يرد في التقارير الدولية ذات الصلة بالحريات قبل دول عربية عدة، باعتباره بلدًا تنتهك فيه حرية الصحافة، فيما الحق أن اسم اليمن يرد متقدمًا على غيره بسبب حيوية الصحافة ووجود رفض نقابي ومجتمعي للانتهاكات المرصودة حتى وإن لم يظهر مرتكبو الانتهاكات جميعهم في المشهد!
اقرأ أيضاً في الذكرى الـ18 لأستئناف النداء الثاني:
[pt_view id="86faa77pnf"]