يؤرخ الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه بحساسية عالية تعقيدات البيئة اليمنية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، في علاقاتها المتداخلة مع المركز الأوروبي الذي حضر بكثافة عبر المستشرقين الأوروبيين حينها في كتابة المهم "المستشرقون وآثار اليمن"، وهو عمل مرجعي نوعي يرصد ويحلل مادة مراسلات الكونت كارلو دي لندبرج مع عدد من الوسطاء اليمنيين النشطين في شبكة تهريب الآثار والمخطوطات وتدوين الزوامل واللهجات المحلية في تلك الفترة.
لندبرج مستشرق سويدي ينتمي للجيل الثالث من المستشرقين الأوروبيين، وكان القنصل العام والوكيل السياسي السابق لمملكة السويد والنرويج في الإسكندرية. بعد انتهاء مهمته بعام، في 1894، ذهب إلى الشام لتعنّ له من هناك فكرة الذهاب إلى الحبشة، لكن تحول الظروف حال دون تحقيق ذلك فوجه طريقة نحو ميناء عدن الذي وصله في ديسمبر عام 1894. لتمتد علاقته باليمن عقب ذلك حتى العام 1911 ويصبح أحد أهم علماء النقوش اليمنية، وأحد أبرز الذين لعبوا دوراً في تجارة الآثار والمخطوطات اليمنية في ذلك الزمن.
المادة الضخمة للمراسلات المتعددة بين عمر السويدي، الاسم العربي الذي اتخذه الكونت حين تطلع للتوغل في المناطق الداخلية لليمن في تلك الفترة، واليمنيين تبني صورة واضحة للفعالية البريطانية النشيطة في عدن وبدء تمددها للداخل اليمني، حيث يحظر بكثافة في المراسلات اسم وايمان بري المغامر البريطاني المعروف الذي اتخذ اسم عبدالله منصور، وتحضر أيضاً تفاصيل الرحلة التي قام التي قام بها لندبرج برفقة "الوالي" البريطاني على متن سفينة تجولت على المدن الساحلية على امتداد الجنوب وصولاً إلى المكلا، وهو ما شكل خروجاً غير معتاد حينها عن التمركز "العدني"، ومؤشراً على بدء التحول في السياسة البريطانية المنكفئة عن جوار عدن تجاه ما عرفت بالمحميات لاحقاً. علاوة على ذلك أوضحت المراسلات ضمنياً الآليات المتعددة التي تكونت في إطارها شبكة "تسريبـ" واسع للآثار والمخطوطات اليمنية في ملتقى القرنين، استفادت من التسهيل الضمني من الإدارة البريطانية في عدن، وإتاحة تلك المدينة لصاحب "أي غرض" الاتصال بقلب العالم آنذاك في أوروبا.
كما تفصح مراسلات لندبرج مع وسطائه المحليين، التي قام بافقيه بتحقيقها وشرحها والتعليق عليها بكفاءة علمية وتاريخية فريدة ومتميزة، قراءة التعقيدات التي رافقت الوصول للمخطوطات والآثار ونقلها من مناطق القبائل والسلطنات، ووسائل التسوية التي يتم اللجوء لها من قبل هؤلاء الوسطاء للنجاح في ذلك مع "العقالـ" والمشايخ كما يخبرون فيها الكونت في رسائلهم المختلفة، وهو ما يشكل مادة مهمة في قراءة البيئة الاجتماعية والسياسية لجنوب اليمن في تلك الفترة، والتي احتضنت هذه العملية النشطة التي لا يمكن قصرها دلالتها على تهريب الآثار فقط، بل لكون هذا الشكل من الاتصال أتاح ضمن مستويات متعددة توسيع الدور البريطاني خارج عدن، خصوصاً في علاقة ذلك مع متغيرين مهمين في شمال اليمن آنذاك، وهما الأتراك، والنشاط المتزايد للإمام "الزيدي" الذي بدأ يثير قلق السلاطين والشيوخ ويلفت انتباه البريطانيين أيضاً.
الكتاب الصادر من مركز الدراسات والبحوث اليمني عام 1988 في جزأين، استغرق من الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه أكثر من عام لإنجازه، وهو الأمر الذي تم فعلاً في العام 1987. لقد كان ذلك مدة أطول من المتوقع حسب قول المؤلف في مقدمة العمل. تضمن الجزء الأول من الكتاب تمهيدا من أمتع ما يكون يخص "أصحاب الرسائلـ"، استغرق فيه بافقيه بشكل أساسي في تقديم سيرة الكونت لندبرج، ليتفحص النموذج الشخصي والمعرفي له عبر قراءة واسعة لأدواره التي لعبها والعلاقات التي أنشأها، متعرضاً للطموح "الملكي" السويدي في منافسة فرنسا بخصوص تبني علوم الاستشراق التي كان "خطها الاستوائي يمر بباريس" في حينها، ومتعرضاً أيضاً لطموحات لندبرج الشخصية المتعددة، ولإنجازه العلمي، وللمنافسة اللدودة التي ميزت علاقته مع المستشرقين الآخرين الذين اهتموا باليمن ونافسوه على مخطوطاتها وآثارها.
ليتسع التمهيد ويشمل مرزق الحجار وعددا من الشخصيات اليمنية التي تراسل معها الكونت، فيقدم معلومات مختلفة عن كل شخص بناء على ما توفر عنه سواء من مادة المراسلات أم من خارجها، دون أن يتوقف ذلك على سرد محايد ومحدود، ليتحسس بافقيه خارطة الوضع اليمني المعقد آنذاك عبر قراءة وسرد معلومات عن مواقعهم الاجتماعية، وطبيعة أنشطتهم، والتعقيدات السياسية والاقتصادية والثقافية التي قدموا منها، والتي أدت إلى قيامهم بأدوار مختلفة، كلاًّ حسب أهميته، في العلاقة مع الكونت السويدي، وفي النشاط الواسع الذي ميز تهريب المخطوطات والآثار اليمنية حينها.
تطال موضوعات المراسلات بين الكونت واليمنيين حقولا عدة، وهي ترصد طبيعة ومستويات العلاقة التي تربطه مع العديد من الشخصيات اليمنية الذين قاموا بلعب أدوار مهمة في تلبية مطالبه مثل جمع الزوامل من البدو، أو تدوين اللهجات المحلية، علاوة على المطلب الأهم بالنسبة للندبرج وهو الحصول على المخطوطات ونقل الآثار والنقوش إليه. كما تكشف الرسائل العلاقات بين هذه الشخصيات وتحولات العلاقة مع مرور الوقت بين مرزق والهتاري والمذحجي والبريطاني بري، علاوة على العلاقة مع السلاطين في المناطق التي يذهب لها هؤلاء كمرسلين من لندبرج، وعلاقات هؤلاء فيما بينهم ومحاولتهم الاستفادة من أي صلات مع "أجنبي" للحصول على مساعدة في إطار صراعات النفوذ وتعزيز السلطة في مناطقهم.
كما أن الرسائل تكشف الجهود المبذولة لتنفيذ مسوح ورسم خرائط تفصيلية عن "البر الداخلي" اليمني بالاستعانة بشكل رئيسي بالمغامر البريطاني بري، بما لذلك من أهمية نوعية يتداخل فيها العلمي بالسياسي حينها. كما أن بعض "الشكايات" في الرسائل التي كان يوظفها الوسطاء اليمنيون المذكورون بغرض "استدرار عطف" لندبرج وطلب المزيد المال منه، ترصد الأوضاع الاقتصادية في اليمن حينها وتأثرها بالظروف المختلفة حينها، مثل أحد مواسم القحط في اليمن التي حدثت في تلك الفترة والتي أدت إلى نزول البدو بكثافة إلى عدن.
علاوة على امتداد القحط إلى الصومال في مرحلة لاحقة، وهو ما أدى إلى نقص في عدد المواشي وبالتالي ارتفاع أسعار اللحوم، حيث "سعر الرطل، من أردأ أنواع اللحم، قد بلغ في عدن ستة آنات".
*نشر في العدد (187) الموافق 11مارس 2009