قبل الوصول لذلك اليوم - شفيع العبد
لا يختلف اثنان على أن اليمن يسير نحو التشرذم والتجزئة، ليس منذ حرب 94م، وإنما منذ اليوم التالي لتوقيع اتفاقية الوحدة، حيث ظهرت المؤشرات الدالة على الرغبة في إلحاق الضرر بالشريك الأساسي للوحدة، من خلال الاغتيالات التي تعرض لها كوادر الجنوب في الحقبة التي عرفت بالانتقالية، والتي هي في حقيقتها وشواهدها انتقامية. ويبقى خطاب ميدان السبعين الشهير في 27ابريل 94م، بمثابة بيان عسكري لإعلان الحرب (التي ألبسها شريكه فيها فتوى دينية) والتي انفجرت بعدها بأيام في عمران، ثم انتقلت إلى أماكن تواجد الألوية الجنوبية حتى ألقت بأوزارها في عدن في يوم اختلف شركاء الحرب على تسميته بين يوم النصر ويوم الفتح، وأسماه أهل الأرض المقهورة بيوم الفيد. ويوم ذبح الوحدة التي ناضلوا من أجلها وتنازلوا في سبيل تحقيقها على دولة وثروة ومساحة شاسعة من الأرض، حتى قيل إن الجنوب دخل الوحدة بأقل سكان وأكبر مساحة وأغنى ثروة، وشعب مسالم تربى على احترام القوانين والمواطنة المتساوية.
منذ حرب صيف 94م ظل الجنوب يرزح تحت قوانين الحرب والفيد والفتوى، وشرعن فيه لعهد جديد ليس له من الوحدة سوى اسمها. وحين انتفض الجنوب الذي لا يقبل الظلم على نفسه للتعبير السلمي عن رفضه للواقع الذي يراد له إن يقبل به، تعرض للقتل ومحاولة مصادرة إرادته، وكبح جماح انتفاضته، وبرغم كل المحاولات التي بذلتها السلطة إلا أنها لم تفلح في إثناء القطار عن السير قدماً، وقتلت السلطة المنتصر والزبيدي وبارجاش وبن همام وباحقيبة.
وواصل القطار رحلته إلى أن وصل إلى المحطة التي كسرت حاجز الخوف وأدارت أعناق العالم لمعاناة الجنوب وأهله. ففي العام 2006م وبينما كان شركاء الحرب يحتفلون بيوم النصر والفتح كلاً على طريقته، كان الجنوب يحتشد في ساحة الحرية للتعبير عن رفضه للواقع مهما كان الثمن. ومن هناك انتقلت شرارة الحراك السلمي لتعم كل الجنوب. ويستمر مسلسل حرب السلطة حيث قتلت في عامين ثمانية من نشطاء الحراك، واعتقلت المئات، وعسكرة الحياة.
واليوم ها هي تحاكم قادة الحراك الجنوبي بعد أن اختطفتهم من بيوتهم فجر الأول من ابريل. لم تكن كذبة، بل واقع أليم، وطريقة استفزازية لا تدل إلا على امتهان الكرامة، اعتقلوهم ونقلوهم بطائرات خاصة إلى زنازين الأمن السياسي في صنعاء. واليوم يقدم أبناء الجنوب (باعوم، الشعيبي، الغريب) للمحاكمة أمام المحكمة الجزائية المتخصصة في قضايا الإرهاب (محكمة امن دولة) بتهم المساس بالوحدة اليمنية وتعطيل أحكام الدستور، والتحريض على العصيان المسلح وإحياء النعرات ونشر أخبار وإشاعات لإثارة الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد. وجاء في قرار الاتهام أن المتهمين الثلاثة حرضوا على النعرات الطائفية وبث روح الفرقة وإثارة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد وهو ما ترتب عليه مقتل وإصابة عدد من المواطنين ورجال السلطات العامة ونهب وإتلاف ممتلكات عامة وخاصة وقطع الطرقات وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة وتعريض سلامة وأمن المجتمع للخطر. واستعرضت النيابة أدلة الإثبات عبر سردها لعشرات المهرجانات والمكالمات الهاتفية التي تحدث فيها الناشطون الثلاثة إضافة إلى شعارات تهتف بالجنوب.
إن محاكمة قادة الحراك الجنوبي، وإصدار الأحكام بحقهم لا يعد حلاً لقضية الجنوب، بل سيؤدي إلى اشتداد الحراك واستمرار يته بفاعليه أكبر، على الحاكم أن لا يستعجل النتائج من خلال تصوير مستشاري السوء له بأن الاعتقالات آتت أكلها وأن الحراك الجنوبي قد انخمد. مخطئ أن صدق كلام كهذا، أو نصيحة كتلك، فالمرحلة التي يمر بها الحراك هي مرحلة استعادة الأنفاس. على أن انتقال الحراك السلمي إلى كليات جامعة عدن يمثل خطوة متقدمة.
الحل قريب ولا داعي للانتقال إلى مربعات أخرى تؤدي إلى صعوبته وتفاقم الأزمة واشتداد أوارها.
إن استخدام القوة والإفراط في العنف لن يؤدي إلا إلى تأزيم الأمور، ولسنا بحاجة إلى التذكير بما حدث في لبنان مؤخراً؛ لأن عود الأحداث ما زال طرياً هناك، وأبواب العبرة والعظة لمن أراد ما زالت مشرعة. كما أن أزمة صعدة هي الأخرى تكشف النقاب عن فشل قوانين القوة والاستقواء بالمؤسستين العسكرية والأمنية.
يبقى الحوار هو المخرج من جميع الأزمات، وطاولاته تتسع للجميع متى تفتحت القلوب على أهميته، والنوايا على نتائجه، والأبصار على آلياته ومنهجه، وتخلت العقول عن عنادها ومكابرتها.
إن الاعتراف بالقضية الجنوبية والجلوس إلى طاولة الحوار هو الخيار الأمثل، على أن وقف المحاكمات والإفراج عن كافة المعتقلين ووقف الملاحقات يأتي في الأولوية. بغير ذلك سيستمر الحراك وستستمر الاعتقالات ولن تتوقف المحاكمات، إلى أن يصحو العالم على شعب بأكمله في قفص المحكمة الجزائية. وعندها ستخرج ذاكرة الأيام لتقول كلمتها الفاصلة.
قائد أم حاكم... أم...؟
تطرقت مجلة "آخر ساعة" المصرية في افتتاحية عددها رقم 3837 الصادر في 7 مايو 2008 إلى وضع مقارنة بسيطة بين القائد والحاكم. ونظراً للضجيج الإعلامي الرسمي الذي تشهده بلادنا، ولما يعيشه اليمن من أوضاع مأساوية على مختلف الأصعدة، فقد ارتأينا اقتباس شيء من قبس "آخر ساعة".
"القائد هو من يضع نصب عينيه سلامة شعبه والحفاظ على الأمن القومي لوطنه، مجددا انحيازه لمصالح الغالبية، دون أن يصرفه عن خيارات شعبه الأساسية، صخب التفاعلات الاجتماعية مهما علا صوتها، أو الحراك الاجتماعي مها ارتفع ضجيجه، فتلك طبيعة حركة التاريخ، وذلك تفاعل طبيعي حدث ويحدث في كل المجتمعات على مر التاريخ.
أما الحاكم فقد تستهلكه التفاصيل فتلهيه عن الأهداف العليا لشعبه، وقد تدفعه الرغبة في التغطية على الصخب المصاحب للحراك الاجتماعي إلى الدخول في مراهنات سياسية أو مغامرات عسكرية تكون كارثة على شعبه.
القائد هو الذي يمتلك الرؤية الواقعية لتفاعلات المجتمع وحركة التاريخ، وذلك ما يجعله يرصد أي زاوية انحراف وإن صغرت فيبادر إلى علاجها قبل أن تنحرف بالقافلة عن مسارها، وهو الذي يسمح لقوى المجتمع المدني بالتفاعل الحيوي، وإطلاق طاقاتها في التعبير، وإن تفجر بعض تلك الطاقات في الاتجاه المضاد، أو سعت إلى منافع شخصية، ذلك لأن مناخ الحريات هو وحده الكفيل بإنضاج تلك المؤسسات لتمارس دورها في البناء الوطني، وتلك ضمانة حقيقة تعتز بها الأمم.
أما الحاكم هو من يمارس صلاحياته طبقاً لتوازنات اللحظة ووفقاً لمصالحه الذاتية، سواء تطابقت أم تباعدت مع مصلحة الوطن، ونظراً لحداثة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في الدول النامية، فإنه لا يقبل إلا بالولاء المطلق والتبعية الكاملة، محيطاً نفسه بأكبر قدر من الضجيج الدعائي".
Hide Mail
قبل الوصول لذلك اليوم
2008-06-05