كانت تلّوح بيديها الصغيرتين من خلف إحدى نوافذ المبنى الذي تقطنه في صنعاء القديمة، وتصدر ضحكة مسموعة، عندما كنت التقط صوراً لها. وبرغم أن ربيعها الرابع لم يكتمل، خُيل إليَّ أنها أدركت ما أقوم به. وللحظات اتضح أنها كانت في حالة نشوة تلعب مع إضاءة فلاش الكاميرا أثناء التصوير.
«أمل» طفلة أفرحتها إضاءة صدرت من الكاميرا التي كانت تصور وربما توثق عشرة مبانٍ تحتضر، غربي الجامع الكبير في صنعاء القديمة.
هي لا تعي الكارثة، وغير مدركة للمصير الذي قد تؤول إليه تلك المباني.
تسكن «أمل» (3 سنوات و8 أشهر)، واسرتها المتفرعة إلى ثلاثة عائلات وعددهم 38 فرداً، في ثلاثة طوابق فقط من منزلهم المكون من خمسة. هو واحد من عشرة مبانٍ عائمة منذ خمس سنوات على بحيرة من المجاري ومياه الصرف الصحي، لكن الباسمة لا تزال في النافذة، توزع ابتساماتها على المارة أمام منزلها. لا تدرك ماذا يعني ان تلك المباني المتجاورة آيلة للسقوط في أي لحظة. ومثلها أطفال كثيرون يسكنون وعائلاتهم هذه المباني.
نزهة مع الفيران ورائحة المجاري
نهاية الأسبوع الماضي، قصدت صنعاء القديمة، باحثاً عن المباني العشرة التي تقع غربي الجامع الكبير. وبحسب بلاغ الهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات «هود» لرئيس الجمهورية، فإن تلك المباني آيلة للسقوط منذ خمس سنوات جرَّاء تسرب مياه المجاري والصرف الصحي إلى أساساتها.
وأثناء بحثي عن تلك المباني شاهدت حركة نشطة لرصف ممرات وأزقة صنعاء القديمة بأحجار «شبامية» جديدة بعد إزالة الأولى، وبدا لي أن ذلك البلاغ لم يكن دقيقاً، وأن اهتماماً ملموساً تبديه الجهات المسؤولة عن الحفاظ على صنعاء القديمة، المدينة الأثرية والمحمية وفق اتفاقيات دولية.
ولكن عند وصولي إلي غربي الجامع الكبير، أصبحت الصورة أكثر وضوحاً ومرعبة في آن. بلاغ «هود» كان حقيقياً، أنت تضطر، لوضع مفكرتك الصحفية على رأسك متوهماً حمايته.
في الممرات المحيطة بالمباني. ستدرك أن قدميك ترفض المواصلة وسط جدران لانت وتعرجت بعد تشبعها بمياه المجاري. أنت في غربي الجامع الكبير: أنت في خطر، هكذا شعرت.
«يحيى علي عصدة»(52 عاماً) يملك أحد مباني الرعب، ويمضي عامه الخامس في متابعة الجهات المسؤولة عن الضرر الذي لحق بالمباني، والجهات المسؤولة عن حماية صنعاء القديمة.
وبنبرة حادة لا تخلو من الحزن: «هم خربوا بيوتنا انفجرت المجاري تحت البيوت حتى اهتمسين (ويشير بيده إلى الأسفل) وتشققين دفرة (دفعة) واحدة».
العم «عصدة» يقطن هو وشقيقاه وعائلتهما في الطوابق الثلاثة العلوية في منزلهم فيما هجروا الطابقين السفليين، بعد ان زحفت الرطوبة إليهما، وما تزال تطمح في الوصول حتى الطابق الأخير.
وفي منزل الرجل المثابر الحزين قضيت خمس عشرة دقيقة في ممرات ودهاليز المبنى أحمل قدميّ المتصلبتين من الخوف (تشققات وفجوات كبيرة على جدران المبنى تحولت إلى أزقة ومنافذ الفئران ورائحة عفنة تنبعث منها). الرجل في محاولة لاثبات الضرر مدّ قبضته إلى الجدار وأخذ جزءاً من سطحه. كان عملاً سهلاً؛ إنها مبلولة تماماً، والرائحة العفنة مصدرها ذلك البلل (مجاري)، كما وحرص على إطلاعي على حجم المأساة فاتحاً أبواب طابقين مهجورين إلا من الفئران، التي تشاركهم حتى في الطوابق العلوية عبر تلك الشقوق والصدوع الممتدة من السطح إلى بقية المبنى: «لمَّا يجي المطر كأننا في الشارع ما بش فرق، وبالليل إحنا والفيران مطاردة».
هو وسبعة ملاك آخرين يصرون على البقاء في منازلهم حتى تعالج المشكلة فيما عائلتان هجرتا منزلهما تماماً. «أمين حسن الدراب»(27 عاماً) يتحدث بحسرة: «خرجنا من الدار واستأجرنا في بيوت الناس. وأنا مستأجر ب12 ألف ريال وأخي مثلي وشقيقي الكبير مستأجر ب15ألف إحنا هربنا من الموت بيتنا تشرخ من الطابق الأول إلى الطابق الأخير (الرابع)». وقال واصفاً أيامهم في المنزل قبل هجره: «لا ليلنا ليل ولا نهارنا نهار».
صفارة الإنذار
قبل خمسة أعوام كانت مياه المجاري والصرف الصحي بعد انسداد مواصيرها تتسرب إلى أساسات المباني العشرة وتمكنت من تهشيم أرضيات المباني محدثة إرتخاء في تربتها.
وفي مساء أحد أيام شهر مايو من نفس العام 2002 أطلقت المباني صفارة إنذار مصدرةً صوت انفجار قوي وهزة أيقظت كل قاطنيها ومن بينهم العم «عصدة» الرجل المثابر الحزين، الذي قال: «بعد ما سمعنا القارح واهتزت البيوت خرجنا إلى الشارع وما درينا أيش الذي حصل».
لكنه يتذكر ان جاراً له يدعى «الخولاني» في ذلك اليوم رفض أن يعود إلى بيته، ونام في باحة الجامع الكبير من شدة الخوف. لحظتها لم يدرك الأهالي مصدر الصوت والهزة الارضية. كانت من فعل المجاري وهبوط المباني وليس صاروخاً كما كانوا يعتقدون.
«في الصباح شفنا البيوت قد هبطين وتشققين والشارع مهفوس، مفتوص (هبط من الوسط)»، قال عصدة. ومنذ ذاك التاريخ يواصل متابعة الجهات ذات العلاقة بصنعاء القديمة بين مؤسسة المياه والصرف الصحي، باعتبارها الجهة المسؤولة عن إحداث الضرر، وبين الهيئة العامة لحماية المدن التاريخية، التابعة لوزارة الثقافة، ووزارة الأوقاف كونها أحد المتضررين (مبنى مكتبة الجامع الكبير) وكذا أمانة العاصمة، المسؤولة إدارياً وجغرافياً عن صنعاء القديمة، إضافة إلى المجلس المحلي للمديرية. وخلال السنوات الخمس الماضية حاز الرجل المثابر على مئات الأوراق، منها المذكرات والأوامر والتوصيات...إلخ.
«يمكنونا محاضر ومذكرات: «عانصلح هذه السنة هذا الشهر هذا الأسبوع. وهات ياسلسلة جري اختك. ما صح منهم شي، حبر على ورق وما ينفذوا ولا شي».
خيانة
يطول سرد وشرح ملف مثخن بأوامر وتوجيهات من شأنها معالجة مباني الرعب التي قد تسقط على رؤوس ساكنيها في أية لحظة وقد يطال سقوطها أرواح المارة من أمامها وقد يكون بينهم سياح.
ولكن وبعد مرور عامين من ميلاد الرعب القاتل، يكشف محظر الإجتماع التاسع للجنة العليا للمحافظة على صنعاء القديمة، التي يرأسها علي محمد الآنسي مدير مكتب رئيس الجمهورية، وعضوية 13 آخرين، أربعة منهم وزراء. وجاء فيه: «ناقش المجتمعون تحت بند ما يستجد في قضية المنازل الواقعة جوار الجامع الكبير، وقد تقرر في اجتماع سابق بحث إمكانية شراء المنازل من أهلها للإستفادة من مساحتها كمرافق للجامع الكبير» وشكل لجنة لذلك من خمسة أشخاص.
هكذا قرر حينها بحضور رئيس الهيئة العامة للتنمية السياسية، ورئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، إضافة إلى وزير الثقافة!! إنها أشبه بخيانة لمهامهم وواجبهم إزاء الوطن.
وفي مارس من العام المنصرم أقرت اللجنة العليا للحفاظ على صنعاء القديمة تحميل أمانة العاصمة دفع إيجارات لساكني تلك المباني، وتحميل وزارة الثقافة إعادة ترميمها الذي كان يفترض البدء به حسب الإتفاق في مثل هذا الشهر (ابريل) من العام الفائت.
خمس سنوات كافية لإعادة ترميم صنعاء القديمة كلها لكن يبدو أن في الأمر سر!!
سلطة السماسرة
إذ قدر لك زيارة صنعاء القديمة ومشاهدة الحركة النشطة لإعادة رصف ممراتها وشوارعها بالأحجار الشبامية بعد إزالة الأولى كما وتجرأت على الاقتراب من مباني الرعب، ستدرك أن ثمة خللاً ما. مصادر مطلعة قالت إن إزالة الرصف السابق هو عمل عبثي ولم ينته عمره بعد. مشيراً إلى سمسرة واضحة تقف وراء هذا المشروع.
يبدو عصدة أكثر قلقاً كلما تذكر أن عمل الرصف يقترب كل يوم من مباني الرعب: «أسالك بالله بيوتنا متضررة وتجوا تصلحوا الشارع»، قالها لـ«علي الآنسي» من خلف باب مكتبه قبل أن يدفعاه الجنود إلى الخارج، هكذا أبلغني كما ويعتبر النائب احمد الرقيحي، إمام الجامع الكبير، مستفيداً من رصف الممرات المحيطة بالمباني «يشتوا يهدوا بيوتنا ويضموها للجامع». ويزعم الرجل المثابر الحزين أن الرقيحي يقول لأعضاء اللجنة العليا للحفاظ على صنعاء القديمة: «صلحوا الشارع مش وقت البيوت».
«المسؤولون يصدقوه لأنه إمام وفقي دين، ما فيهم رحمة»، الحديث لـ«عصدة».
وفي مذكرة مدير مديرية صنعاء القديمة، حسن لطف القريطي بعثها لـ«على الآنسي» نهاية مارس الماضي يطلب منه التوجيه إلى الجهات المكلفة بترميم مباني الرعب قبل البدء في عملية رصف الممرات التي حولها. وكان الأمين العام للمجلس المحلي لمديرية صنعاء القديمة، مجاهد الغيل، أفاد لـ«النداء» أن المشكلة طالت أكثر من اللازم، وحمل وزير الثقافة الاسبق المسؤولية الكبرى لمماطلته في توفير تكاليف الترميم الذي لا يتجاوز 45 مليون ريال.
وكيل الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية خالد جباري قال: «إننا نتابع الموضوع منذ خمس سنوات وهي ليست مدة طويلة ومش معقول تنهار البيوت خلال سنة أو سنتين» قالها محاولاً تخفيف هول الكارثة التي قد تحدث في أي لحظة.
جباري يتحدث وهو غير راغب وابلغني أنه مشغول حينها بكشف كان على سطح طاولة أمامه، تحمل، كما أخبرني، أسماء المخالفين لقانون الهيئة ونوعية المخالفة والغرامة المفروضة على كل واحد منهم،، وقبل مغادرة مكتبه قال لي محذراً بطريقة أكثر لياقة: «هؤلاء القاطنون مباني الرعب) يُضرِّبوا بأنفسهم عندما يلجأوا للصحافة».
خواء
وأنت في الممرات المحيطة بمباني الرعب، وكذا في مداخل تلك البيوت ستلحظ خطوطاً بيضاء عريضة على جدران المباني، عند الإقتراب منها ستكتشف أن الخطوط هي من مادة «الجص» لقد سدوا بها التشققات. ويعلق العم «عصدة»: «الدولة سدت الشروخ والشقوق في الجدران بجص لأن الصحفيين والسياح كانوا يصوروها (...) يسدوا عوراتهم ويخفوا الحقيقة».
هذه المشاهد القاتمة الفجائعية، ما هي إلا إطار لنوع آخر من الكارثة، تتجسد في مهام مسؤولين لم يعودوا يحملون الشعور بها.
basheralsaeedMail
صنعاء القديمة في لحظة إحتضار.. عشرة مبانٍ تاريخية تطفوا على بحيرة مجاري
2007-04-19