«الفرق بين المناقشة والدعوة إلى القتل».. آراء الترابي بين أستاذ سابق في جامعة الإيمان وآخر لاحق - مجيب الحميدي
تحت ضغط المطالبة الشعبية اضطر الفريق البشير مرغماً أن يفرج مؤخراً عن الشيخ حسن الترابي، ولكن النظام السوداني هذه المرة كان يبيت لجريمة جديدة، كان عازماً على التصفية الجسدية للشيخ بعد أن ضاق ذرعاً بمعارضته وهو المخطط الذي شاء الله أن ينكشف ويفتضح أمره قبل التنفيذ. كتمت السلطة غيظها ولجأت إلى اللعب بالسلاح الذي طالما استخدمته السلطات قديماً وحديثاً و بسببه مات الإمام ابن تيمية في السجن ونادى المنادي في الناس: "من اعتقد عقيدة ابن تيمية دمه وماله حلالـ"، وبه جلد الكثير من المجتهدين واعدموا وانتصرت أفكارهم بعد مماتهم، ففتوى ابن تيمية بالطلاق أصبحت اليوم هي السائدة في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
لجأت السلطة السودانية إلى سلاح التكفير القديم الجديد، فأوعزت إلى بعض علماء الحركة السلفية بنبش بعض آراء الترابي التي قالها قبل ثلاثين عاماً، مع إضافة بعض الافتراءات والأكاذيب (لزوم الإثارة): أباح الردة.. أباح الخمر.. أنكر الحجاب.. و.. و...».
بعد ذلك تداعت رشاشات فتاوى التكفير لتطلق نيرانها بكثافة لتوفر التغطية لتسلل بعض الأيدي الغادرة التي لا تعرف غير حوار الرصاص النذل.
علماء المجمع الفقهي التابع للقصر الجمهوري وجدوها فرصة للنيل من خصم سياسي قديم بعد أن اطمأنوا إلى أن الترابي لم يعد يمتلك سيف المعز ولا ذهبه وأن خلافه مع السلطة حقيقي لا مجرد مسرحية، فتنادوا أجمعين وكأنهم اكتشفوا لأول مرة أقوال الترابي وكأنهم يجهلون أن الترابي نشر أقواله المتعلقة بحكم الردة ونزول المسيح وغيرها في السبعينات والثمانينات على نطاق واسع في معظم أنحاء السودان وخارجه، فما الذي أخرسهم بالأمس وأنطقهم اليوم؟
دوافع سلفيي السودان واضحة، ولكن الأغرب أن يحاول البعض في اليمن توريط مؤسسة علمية رائدة مثل جامعة الإيمان في فتنة تكفير لا يعلم أحد من وراءها وما خلف الكواليس، خصوصاً والجميع يعلم علاقة الشيخ عبد المجيد الزنداني القوية بالشيخ الترابي لاسيما إبان حكم الإنقاذ والمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي.
ما الذي استجد حتى تنبري صحيفة "صوت الإيمان" للتحريض على الترابي؟! وما علاقة الجهات الداعمة بهذه الحملة؟
من حق جامعة الإيمان وعلمائها وصحيفتها بل ومن واجبهم أن يناقشوا آراء الترابي وأن يقارعوا الحجة بالحجة وأن يوضحوا للأمة ما يرونه صواباً ويدينون لله به، لكن بدون التحريض على القتل واستخدام أسلحة التكفير والتشهير والدعوة إلى مصادرة حرية الرأي ونصب محاكم التفتيش الغيابية للمفكرين والمجتهدين في سائر أنحاء الأرض.
استغربت كثيراً من عدم تورع أستاذ التزكية في الجامعة، الأخ عارف الصبري، في ترديد بعض الأكاذيب التي نفاها الترابي مراراً في أكثر من تصريح صحافي وأكد أنها مجرد افتراءات اختلقها صناع الفتنة ومن يقفون خلف الستار. ففي تصريح صحافي لصحيفة "الجمهورية" السودانية نفى الترابي ما تناقلته عنه وكالات الأنباء وبعض الصحف السودانية قائلاً: "لا أصدر فتاوى وإنما أعبر عن رأيي فقط.. وليس هناك أي صحافي أو أي جهة دينية جاءتني لتستوضح مني ما نقل عني. فكل ما نقل عني حدث فيه مزايدات كثيرة من قبل الصحافيين لإحداث الإثارة". مشيراً إلى أنه لم يخالف النصوص القرآنية، مؤكداً أنه لم يرفض آية تنصيف شهادة المرأة ولكنه يرفض تنصيف الآية وتبعيضها وإهمال النصف الآخر منها الذي تضمن علة التنصيف بصيغة احتمالية، محذراً من خطورة اجتزاء بعض النصوص خارج سياقات اللغة والزمان والمكان وإغفال المقاصد وإغفال الرؤية التوحيدية التي فصلها في كتابه"التفسير التوحيدي للقرآن الكريم". وحول الحجاب أوضح الترابي لـ"الجمهورية" أنه كان يتحدث خلال ندوة أقيمت في أم درمان عن المعنى اللفظي، وقال: "إن المقصود بالحجاب هو الستار الذي كان موجودا في غرف أمهات المؤمنين، أما ما يتعلق بزي المرأة المسلمة فيسمى خمارا وليس حجابا"،موضحاً أنه تناول الاستخدام الصحيح للغة العربية فقط والتفريق بين المعنى اللغوي للحجاب والخمار، مشيرا إلى أن الكثير يجهل اللغة العربية مما يترتب عليه الجهل بالتفسير القرآني.أما زي المرأة فقد بين الترابي في كتبه أن هدي النبي صلى عليه وسلم ألا يظهر من المرأة إلا الوجه و الكفين.
أستاذ التزكية في جامعة الإيمان، وبعد حشد عدد من المقدمات المنقولة البعيدة كل البعد عن النتائج التي توصل إليها، يؤكد -في العدد الأخير من صحيفة "صوت الإيمان"- أن الترابي "أباح الردة". لاحظوا الأمانة والنزاهة في النقل! ولكم أن تستغربوا كيف يصدر هذا التدليس عن أستاذ تزكية، الأصل ألا تعميه الكراهية وأن يحرص على عدالة النقل، ولا نقول حمل الكلام على أحسن المحامل كما تقتضي التزكية الحقيقة. وليس من الصعوبة التفريق بين القول بإباحة الردة وبين قول الترابي أن عقوبة الردة -إذا لم يصاحبها خروج عسكري على الجماعة- عقوبة أخروية. ولكن أين أهل الإنصاف والعدل؟! لست بصدد الدفاع عن رأي الترابي في التفريق بين الردة الفكرية والردة السياسية، وأدعو القارئ أن يعود إلى ما كُتِب حول الفرق بين عقوبة المرتد المحارب والمرتد المسالم في مؤلفات ابن القيم والسرخسي والثوري والنخعي ومحمد سليم العواء الأمين العام لهيئة علماء المسلمين وطه جابر العلواني رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمفكر الإسلامي راشد الغنوشي و الداعية الكويتي طارق السويدان والدكتورأحمد الدغشي من اليمن.
لا ندري هل يستطيع عارف الصبري تكفير جميع هؤلاء وتزكية إيمانهم دفعة واحدة حتى لا نشك بأن وراء تكفيره للترابي دوافع أخرى ولإشباع رغبته بالتكفير سنزوده بقائمة بأسماء العلماء الذين يتفقون مع الدكتور الترابي في معظم آرائه من عصر الصحابة وحتى عصرنا الحاضر.
ولماذا لايكفر الصبري محمد رشيد رضا ومحمد الغزالي وأبو زهرة ومحمود شلتوت؟! الذين اتفقوا مع الترابي في التشكيك بروايات نزول المسيح التي احتار من تضاربها عدد من علماء السلف وقال المعاصرون إنها تتعارض مع الآيات التي تحدثت عن وفاة عيسى في القرآن بألفاظ تحتملها اللغة العربية من أشهر الوجوه، فكلمة "توفيتني" تعني الوفاة في جميع قواميس اللغة العربية لاسيما عندما تنعدم القرينة التي تصرف المعنى الحقيقي -حتى لا يزايد علينا أحد بقول ابن حجر العسقلاني: "كل متأول معذور بتأويله وليس بآثم إذا كان تأويله سائغاً في لسان العربـ" أو بقول حسن البناء: "..أو فسر القرآن على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحالـ". وللفائدة أدعو الأخ عارف الصبري إلى قراءة المناقشة الجديدة لآراء الترابي التي كتبها الأخ محمد المختار الشنقيطي الأستاذ السابق بجامعة الإيمان "لموقع الفقه السياسي" وأعاد نشرها في موقعي"الصحوة نت" و"نيوز يمن" ودافع الشنقيطي في هذه الدراسة عن جامعة الإيمان وشيخها الفاضل عبدالمجيد الزنداني أمد الله في عمره وأعانه على ترشيد بعض ما يموج في الجامعة. وأكد الشنقيطي أن هدفه من هذه المناقشة دفع داء التكفير والتشهير الذي أصاب بعض متتبعي العورات المسترخصين تكفير أهل التوحيد وتضليلهم وتبديعهم والعودة إلى منهج العلم والعدل وحسن الظن بأهل العلم مهما أغربوا أو خالفوا المتعارف عليه من النقول والفهوم. وسيطلع الصبري من خلال قراءته لهذه الدراسة على آراء ابن القيم وابن تيمية التي تتفق مع أراء الترابي، حتى يتبين له مدى صوابية استدلاله بما نقله عن ابن القيم حول الطعن بكتاب الله وسنة رسوله.
وأود أن أشير هنا إلى أن ذكر ما سبق لا يعني أني أتبنى آراء الترابي أو الشنقيطي. يقول ابن تيمية في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" بعد أن ذكر مخالفة أحد العلماء لحديث فيه تحريم ووعيد "ولا يمنعنا الخلاف أن نعتقد تحريم هذا محتجين بالحديث ولا يمنعنا مجيء الحديث أن نعتقد أن المتأول معذور لا يلحقه الوعيد" وقال في موضع آخر " ثم إننا مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لا نعلم لها معارضاً يدفعها وأن نعتقد وجوب العمل بها على الأمة ووجوب تبليغها وهذا مما لا يختلف فيه العلماء".
و لا أسوق هذا من باب الإدانة أوالتهرب بل من باب التأكيد على عدم أخذ أو تبني أي رأي تقليداً لفلان أو علان دون دراسة مستفيضة ومعمقة. كما أود تذكير الصبري بموقف الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عندما حاول بعض الجهلة استدراجه لتكفير الترابي ونقلوا له جميع أقوال الترابي فأصر الشيخ ابن باز على عدم إصدار أي حكم حتى يستمع إلى توضيح شخصي من الدكتور الترابي حول مجمل ما نسب إليه مع بيان الأسباب والتأويلات التي دفعته إلى تبني هذه الأقوال.
وعموماً أدعو القراء إلى قراءة مناقشة الشنقيطي المستفيضة لآراء الترابي في موقعي: "الصحوة نت" و "نيوز يمن" التي وافقه فيها وخالفه بلغة علمية رصينة بعيداً عن التكفير والتشهير متحاشياً الإنزلاق في منزلقات التقديس والتبخيس. كما أدعو المهتمين لتأمل هذه المنقولات التي اختتم بها الإمام الشوكاني رسالته "إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطاق السماع"، يقول:
" وقال القرطبي من المالكية: الحق في هذه المسألة التفصيل، فمن قال: إن أدلة الإجماع ظنية فلا شك في نفي التكفير، لأن المسائل الظنية اجتهادية، ولا تكفير فيها بالاتفاق، ومن قال إنها قطعية فهؤلاء هم المختلفون في تكفيره، والصواب أنه لا يكفر وإن قلنا إن تلك الأدلة قطعية متواترة، لأن هذا لا يعم كل أحد بخلاف من جحد سائر المتواترات، والتوقف عن التكفير أولى من الهجوم عليه ؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا حار عليه " انتهى.
وقال ابن دقيق العيد: من قال إن دليل الإجماع ظني فلا سبيل إلى تكفير مخالفه كسائر الظنيات، وأما من قال إن دليله قطعي فالحكم المخالف له إما أن يكون ثبوته قطعياً أو ظنياً، فإن كان ظنياً فلا سبيل إلى التكفير به. وإن كان قطعياً فقد اختلف فيه، ولا يتوجب الاختلاف فيما تواتر من ذلك عن صاحب الشرع بالنقل، فإنه يكون تكذيباً موجباً للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به، ولم ينقل الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع.
فتلخص أن مسائل الإجماع تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع، فيكون ذلك تكذيباً موجباً للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به ولم ينقل الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع، لا فيما صحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع، كوجوب الصلوات الخمس، فإنه ينتفي الخلاف في تكفير جاحده، لمخالفته التواتر، لا لمخالفة الإجماع، إلى آخر كلامه الذي نقله الزركشي في البحر، وابن أبي شريف في شرح الإرشاد، وغيرهما من المتأخرين. وقد ذكر أبو إسحاق الشيرازي في الملخص أن الفسق يتعلق لمخالفة الإجماع، والكفر يتعلق برد ما علم من دين الله قطعاً ويقيناً.
وقال إمام الحرمين في البرهان: إن الضابط فيه أن من أنكر طريقاً في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم جحده كان منكراً للشرع، وإنكار جزئه كإنكار كله. انتهى.
ولنقتصر على هذا المقدار من نقل أئمة الأصول من أهل المذاهب الإسلامية، وقد خرجنا عن المقصود إلى غيره، ولكنه أخذ بعض الكلام بحجزة بعض، وأردنا تكميل الفائدة في مسألة الإجماع، وحكم مخالفه، ليتيقن المسارع إلى الحكم بالإجماع من دون بصيرة، والجزم على مخالفه مطلقاً بالكفر والضلال، مع أنه قد تقرر في الأصول خلاف من خالف في إمكان الإجماع، ووقوعه، ونقله، وحجيته. وذلك معروف عند كل من له إلمام بعلم الأصول، والتفات إلى طرائق العلماء الفحول. ولقد قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه الروض الباسم: إن الضروريات من الإجماع هي الضروريات من الدين، قال: وغالب الإجماعات المنقولة في المسائل الاجتهادية من قبيل الإجماع السكوتي. انتهى"(إنظرالرسالة في ملحق كتاب فقه الغناء والمعازف عند الإمام الشوكاني لكاتب المقال).
«الفرق بين المناقشة والدعوة إلى القتل».. آراء الترابي بين أستاذ سابق في جامعة الإيمان وآخر لاحق - مجيب الحميدي
2006-06-21