صنعاء 19C امطار خفيفة

عزبة الوالد

كتبت أكثر من مرة عن فشلنا منذ عام ١٩٦٢ في بناء "الدولة" كمؤسسات تُتداول فيها السلطة، وتسود فيها انتخابات حرة ونزيهة، ويتمتع فيها المواطن والإعلام والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، بما فيها الأحزاب، بالحرية التي لا يقيدها إلا الدستور، وليس هوى الحاكم، وكخطاب سياسي وطني وسلوك ومصالح (عامة) وقيم تحترم وقوانين تطبق على الكل بدون تمييز وقضاء نزيه وفصل حقيقي للسلطات وطهارة اليد واللسان الخ...
 
الواقع المستمر حتى اليوم يؤيد ما ذهبت إليه عن استمرار غياب الدولة كما هي معروفة بوظائفها الفعالة لتحقيق مصالح الكل عند الغير. والنتيجة هي ما نحن فيه من فشل بلغ حد تصنيف اليمن قبل عقد ونصف تقريبًا بالدولة شبه الفاشلة وبالملاذ الآمن للإرهاب. يضاف إلى ما سبق فهم ضيق للدولة يركز على رئيسها "الرمز" عوضًا عن الدستور والمؤسسات الفاعلة والإنجازات الفعلية. أدى ذلك إلى "حُب" الدولة أو السلطة أو كرهها بناء على مصالح يجنيها البعض أو يحرم منها، أو لانتماء الرئيس إلى منطقتهم أو مذهبهم حتى ولو لم يحصلوا منه على أي مغنم. منذ عام ١٩٦٢ وابن رئيس الجمهورية يعتبر نفسه الرئيس في الظل، وأستثني فترتي القاضي عبدالرحمن الإرياني والشهيد إبراهيم الحمدي.
الرئيس في أية دولة ديمقراطية لا يصحب إلا أولاده القُصّر للعيش معه في دار السكن الرسمي، وليس الراشدين منهم سنًا، وغير الرشيدين سلوكًا، ولا أقصد هنا المعنى الأخلاقي للكلمة. السيد هانتر بايدن المحكوم عليه بالسجن لعدة تهم، منها المخدرات والتهرب الضريبي، لم يعش في البيت الأبيض مع والده، وأخت الرئيس أوباما المقيمة في أمريكا، لم تعش في البيت الأبيض مع أخيها الرئيس على حساب دافعي الضرائب، كما أن أوباما من باب الطاعة لم يفكر بدعوة جدته من كينيا للعيش معه في البيت الأبيض، لتنعم ببعض ما هو فيه من رغد العيش، لأن دافع الضرائب لن يسكت.
 
أما عندنا فالرئيس يجعل أنجاله وأقاربه مستشارين له وصانعي قرار في الظل. هؤلاء تسميهم سارة فيليبس في كتابها "اليمن وسياسات الأزمات الدائمة"، الصادر عام ٢٠١١، "الدائرة الداخلية" المكونة من دائرة الرئيس ودائرة الأنجال وأبناء الأخ وبعض الأقارب المختارين، وثلاث دوائر أخرى أكبر في العدد، تضم أصحاب المصالح.
في الديمقراطيات لا يسمح للراشدين من أبناء الرئيس بالعيش معه لاحتمال تضارب مصالحهم مع المصالح العامة، ولأن الإنفاق عليهم سيكون من المال العام. عندنا تؤدي هذه الرفقة إلى أن يُمارس الفساد والمحسوبية قرب وسادة الرئيس، وغالبًا بعلمه، رغم قسمه الدستوري على المحافظة على مصالح البلاد والعباد.
في ١٨ نوفمبر الجاري، نشر أحد المواقع صورة لنجل الرئيس الحالي وعلى يمينه ويساره نجلاه، بمناسبة تخرج أحدهما من كلية الاقتصاد بجامعة تومسون ريفرز بكندا، وتخرج الثاني من الكلية الحربية الأردنية. الصورة أخذت في مقر رسمي، لأن في خلفيتها صورة الوالد/ الرئيس والعلم الجمهوري. هذا المكان ليس متاحًا في الوطن الذي يغيب فيه مبدأ المواطنة المتساوية، لكل مواطن ليأخذ صورة تذكارية فيه. لهذا السبب يجب إعمال هذا المبدأ في كل مناحي الحياة صغيرها وكبيرها، ومن يفرط بما قد يراه صغيرًا، سيفرط بما هو أكبر منه.
إن الصورة والمكان يؤكدان غياب مفهوم الدولة حتى لدى النخب، واستمرار عدم الفصل بين الأسرة وبين الوالد/ الرئيس. هذا السلوك استمرار لثقافة يسهو عن ملاحظتها ونقدها دعاة الدولة المدنية والشفافية في الحكم ونزاهة الحاكم وطهارة قلبه ويده ولسانه، وهو تجسيد حي للفشل المزمن للفصل بين السلطات وبين الوالد/ الرئيس وبين الأنجال الراشدين.
الاستسهال واللامبالاة العامان السائدان لدينا يفتحان الأبواب لما هو أكبر، طالما أن الرئيس منذ عام ١٩٦٢ لم يخضع لأدنى رقابة أو محاسبة كموظف عام يتقاضى مرتبه لخدمة الناس، ولفترة دستورية محددة عصية على الكسر.
لقد نتج عن التطور الذي استجد في عهد الرئيس الراحل صالح، بتسميته الرئيس "الرمز"، أنه أصبح فوق القانون ولا يحاسب. وطالما أنه كذلك فلا رقابة على أدائه حتى ولو حنث بالقسم الدستوري وعاث في الأرض فسادًا، ونتج عن ذلك ضياع ٦٠ مليار دولار على الشعب الأكثر فقرًا وتخلفًا في العالم.
لن نستعيد الدولة، ولن نبني دولة، ولن تقوم للدولة بدورها الدستوري الكامل وبفاعلية مؤسساتها طالما وأن الأنجال يمارسون سلطات غير دستورية، ويرافقون أباهم كظله، ولا ينتقدون هم ولا الرئيس/ الوالد.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً