فيلم "المرهقون" للمخرج عمرو جمال، والذي حصد جائزتين في مهرجان فالنسيا مؤخرًا، يبدأ بمشهد اعتيادي لزوجين، أحمد وإسراء، يقومان بالتسوق اليومي في سوق الخضروات في عدن.
مع تطور الأحداث، يتبين للمشاهد أن رتابة الحياة اليومية في المشهد الافتتاحي ليست سوى واجهة تخفي أزمات متفاقمة في حياة الزوجين أشعلتها الحرب، أزمات ولّدت شعورًا بالاستياء، الغضب، السخرية، والأهم شعورًا بالهزيمة يتناسب مع العبثية المطلقة التي اجتاحت وجود الزوجين.
في مشهد آخر، نرى إسراء وأحمد في المنزل، حيث تستمع إسراء إلى الأخبار عن الأزمات الحالية التي تعصف بالبلاد.
لم تنجح الأخبار سوى في زيادة الخوف في حياة إسراء المفرطة بالقلق، إذ تعلن إسراء: "أنا خايفة"!
بينما تقدم وجبة إفطار متواضعة لزوجها وأطفالها الثلاثة.
ومع تقدم المشاهد في الفيلم، نشهد الأزمات المتكررة التي يعيشها أبطالنا، رسوم المدارس التي ترتفع باستمرار حتى أصبح من الصعب مواكبتها، انتظار مزمن لرواتب لا تصرف، الانتقال إلى منزل آخر يتناسب إيجاره مع دخلهم الشحيح، ولكنه يعكس كآبة وسوداوية الحياة التي يعيشانها. وكأن المشاكل المتواترة ليست كافية!
إسراء الآن حامل بطفل غير مرغوب فيه، وتأتي فكرة الإجهاض كحل "للكارثة" وسط معمعة وجود يبدو لأبطال الفيلم عبثيًا ومثقلًا بالهموم.
فيلم "المرهقون" مستوحى من أحداث حقيقية حدثت في عدن ٢٠١٩، ولكنه أيضًا يعبر عن حال العديد من اليمنيين الذين أثقلهم واقع مرير فرضته الحرب.
قصة الفيلم تحمل الكثير من المعاني المجازية التي تسرد قصة شقاء وطن منسي ومعاناة شعب ممحية، إذ العدالة تُجهض بشكل يومي، صانعًا واقعًا مؤلمًا يجعل من الصعب عدم الانزلاق في حتميته المرعبة.
سردية الفيلم تتأرجح بين عبثية الوجود كما وصفها الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، والمليئة باللامنطق، إذ يصبح السؤال الأهم: "هل تستحق الحياة أن نحياها؟!".
وبين التقاليد الإسلامية ومنطقها الذي يسعى لجلب نوع من التوازن لأرواح أبطالنا العالقين في واقع يبدو عبثيًا لأبعد الحدود في محاولة لإيجاد معنى للحياة، ومعنى للحياة الجديدة التي حُكم عليها بالموت من قبل أن تولد، من خلال تجديد اليقين برحمة الله في نفوسٍ شتتت الحرب إيمانها، نرى استسلام أحمد لحتمية عبثية كامو، حيث يبدو مستسلمًا ومهزومًا بسبب الواقع المرير وانقطاع الرواتب، ويعمل الآن على حافلة صغيرة لتأمين لُقمة العيش.
الحياة أصبحت بالنسبة له مليئة بما ينافي العقل، ويجافي الصواب، إذ نراه يعلن: "الله يلعن الحرب والناس اللي جابتها الحرب"، تعليقًا على شقيق إسراء الذي أصبح محبوبًا بعد أن كان منبوذًا، بسبب قدرته المادية التي تحسنت خلال الحرب!
يصرّ أحمد على إسراء بأن عليهما إجهاض الجنين، سواءً كان يؤمنُ بالمشكلة الأخلاقية المتمثلة في قتل نفسٍ بريئة أم لا!
يحاول أحمد المهزوم مسبقًا، أن يُرضي مشاعر زوجته الأخلاقية، بالتأكيد على أن الإجهاض في الأسابيع الأولى ليس قتلًا، لأن الجنين لم تُنفخ فيه الروح بعد!
يبدو أحمد للمُشاهِد كأنه يتبنى بشكل ضمني عبثية كامو في العيش في عالم بلا معنى، إذ يرى إما أن الله غير موجود! أو أن الله لا يكترث!
ويظهر فشله في إيجاد معنى "للمصيبة" التي حلت به من خلال علاقته مع الله.
على الرغم من أن تبرير أحمد يلقى صدى لدى إسراء، إلا أنه يمكن رؤية لحظات من التردد في موقفها.
محاولاتهما الأولى للحصول على موافقة الطبيبة على الإجهاض، تفشل، وبالتالي يصبح أحمد الذي يشعر بأنه عالق في مصيبة لا يمكن الخروج منها، أكثر عُنفًا وإساءة لإسراء، مما يضع حدًا لتردُّدِها.
في مشاهد أخرى.. نرى إسراء في حوار مع شقيقتها، وأحمد مع صديقه، يخبرانهما عن الحمل.
ولكن الخبر الذي قد يبدو للآخرين خبرًا سارًا، يَظهر في تعابير الزوجين كانتحار ذاتي بالفعل.
نسمع في السردية ذكر آيات من القُرآن الكريم مثل "لا تقتلوا أولادكُم خشية إملاق" أو "الله هو الرازق"، لتذكير الزوجين بأن الله موجود، تبدو غير منطقية للزوجين.
استسلام أحمد المطلق واستسلام إسراء لاستسلامه، جعل من غير الممكن رؤية تدخل الله سبحانه وتعالى، في كلمات شقيقة إسراء عن رغبتها هي وزوجها في مساعدتهما لإيجاد عمل أفضل لأحمد، أو كرم صديق أحمد وشقيقه لتخفيف المصاريف التي أثقلت كاهل أحمد.
تحاول إسراء زيارة طبيبة أخرى، صديقتها منى، تبدو لنا شخصية مؤمنة، ترفض بدورها إجراء عملية الإجهاض. إلحاح الزوج المستمر يدفع إسراء للجوء إلى الخيار الأخير..!
إجهاض غير قانوني وغير آمن في المنزل! تتمكن منى من منعه، بينما توبِّخ إسراء قائلة: "عندك فقر دم حاد، إذا حصل نزيف باتموتي".
إسراء التي لا ترى مخرجًا تعلن: "الموت أفضل من العيش".
هنا نرى إسراء تقدم إجابة لسؤال كامو عن جدوى الحياة التي أصبحت ملوثة برؤية عبثية بِأن الحياة لها ولجنينها لا تستحق أن تعاش.
عندما ترى منى معاناة صديقتها، توافق على مساعدتها في عملية الإجهاض.
في اليوم التالي، نُشاهد أحمد وإسراء في المستشفى بانتظار رؤية منى، وإلى جانبهما تجلس سيدة مع طفلها الذي يلعب بجوارهم.
يحين دور الزوجين لرؤية منى التي تبدو قانطة، لأنها ستُجهض الجنين مرغمة ومستسلمة من أجل إنقاذ صديقتها. أثناء مغادرتهما مكتب منى، تسأل إسراء أحمد فيما إذا كان قد غيّر رأيه بعد رؤية الطفل يلعب ويركض في أروقة المستشفى، لكن من دون جدوى!
أحمد يؤكد إصراره على الإجهاض.
خلال الإجراءات التي تسبق العملية، نرى مشاهد إيحائية وكأن الله يمنحهما عدة فرص لتغيير قرارهما: انقطاع الكهرباء أثناء إجراء فحص الدم، طبيب يرفض التوقيع على الأوراق ويطلب فحوصات إضافية. لكن هذه المواقف تبدو للزوجين أكثر عبثية ولا منطقية.
يتم الإجهاض.. وتبدو الحياة كأنها تستمر برتابتها المعتادة، لكن إسراء تعيش مع إحساسها بالذنب لإجهاض جنينها، وتعاسة بعد أن فقدت صديقتها منى التي أًجبِرت على الانزلاق في عالم أحمد وإسراء العبثي، وترفُض الرد على مكالماتها، بينما أحمد يرى أن على إسراء أن تعتاد على الوضع، بمعنى آخر الاستسلام والرضوخ لواقع عبثي وعدمي خالٍ من المعنى.
لعل المشهد الأخير يعتبر أكثر المشاهد عبثية في الفيلم..
بينما يقود الزوج السيارة برفقة إسراء ليوصلا أطفالهما إلى أول يومٍ دراسي، نسمع حوار أصغر أطفالهما مع أشقائه، يتحدث بتوجس وقلق حول يومه الأول في التحاقه بالمدرسة. وسط حديثه معهم، يدعو الطفل إلى الله أن تكون معلمته محبوبة!
بينما يستمعان إلى دعاء طفلهما، نرى أحمد وإسراء ينظران إلى الأمام بنظرات خاوية.
فيلم رائع يسلط الضوء على المعاناة الإنسانية في مواجهة محنة وضراوة الظروف التي تفرضها الحرب على الإرادة البشرية في خلق معنى لاستمرارية الحياة. تم عرض الفيلم في أكثر من مهرجان سينمائي، من ضمنها مهرجان سيدني الـ٧٠ للأفلام. الفيلم حاز على العديد من الجوائز بسبب الطابع الإنساني لسردية الفيلم.
*استاذة في قسم علوم الجريمة كلية الدراسات السياسية والاجتماعية، جامعة ملبورن استراليا.