الأعزاء، العزيزات، الحاضرون جميعاً
كنتُ أتطلع وبكل شوق أن أكون في العاصمة السويدية "ستوكهولم" لاستلام جائزة الكاتب "كورت تشوكولسفي" التي شرفت بها، إلا أن التعقيدات البيروقراطية للحصول على الفيزا والتي تفرضها السلطة السويدية، وغيرها من السلطات الاوربية، على القادمين من دول الشرق الأوسط، اعاقت سفري، كما أن الوضع الحالي لبلد كبلدي بات بلا سيادة يقتضي للحصول على الفيزا تنقلي أنا وزوجي من العاصمة اليمنية صنعاء إلى القاهرة وهو ما حال للأسف دون السفر، إلى جانب مشقة التنقل البري في النقاط الأمنية المنتشرة على طول بلادي، إلا اني ومن هذه المسافة ألمس تقديركم واحتفالكم بي.
العزيزات، الأعزاء.
على امتداد تاريخنا الإنساني، ظل الكتاب والمثقفون المنحازون لحرية الفكر والتفكير، الجدار القصير للاستهداف من قبل السلطات السياسية وأيضاً الدينية، حيث كانوا عرضة للاضطهاد والملاحقة والاعتقال والقتل، واحراق كتبهم في دورة مستمرة من الاضطهاد والتنكيل بدء بعصور محاكم التفتيش في القرون الوسطى إلى العصور الحديثة، وإذا كانت أزمنة الاستقرار السياسي والسلم العالمي قد توفر للكتاب هامش من الحرية للتعبير عن آرائهم، تمكنهم من التحايل على إجراءات القمع والتقييد في مجتمعاتهم المحلية، فإن أزمنة الحروب، هي تجلي كارثي ومروع لحالة المصادرة والنفي والتنكيل بما تكرسه من انحطاط أخلاقي وقيمي يرافقه تدمير للبني المجتمعية والمدنية يعززه تنامي نزعة شيفونية عصبوية تكرس سيادة خطاب آحادي أو ثنائي متضاد ومتصارع على السلطة يصادر أي صوت مستقل يقوض سردية المتصارعين، بحيث تعزز قوى الحرب من آليتها في اضطهاد الكتاب والمثقفين المستقلين لتثبيت روايتها في الصراع ومن ثم فرض هيمنتها، وفي بلدي، ومع ان قمع الكتاب والصحفيين المستقلين رافق مسار الأنظمة السياسية، إلى جانب السلطة الدينية التي عملت على تكفير الكتاب، أنا احدهم، فإن الحرب في بلدي كانت ولازالت زمن ممتد من القتل والترويع والالغاء والمصادرة لا بحق الكتاب والصحفيين فقط بل بحق معظم المواطنين.
الأعزاء، العزيزات
يختزن الوعي بالحرب، إدراك الصدمة، معايشة الخسارة والفقد، انسحاقك كآدمي أمام آلة القتل التي تحصد أرواح البشر، حيث يصبح القتل من أجل القتل، والقتل من اجل السلطة الصوت الأعلى لفرض سردية المنتصر مقابل تسيس هوية الضحايا ومن ثم الغاء معاناتهم الإنسانية، كانوا يقتلون المدنيين ولازالوا، وكانت تخرس أصوات الحقيقة، فيما يطرد المنكوبون إلى الهامش، يتحولون إلى مجرد ارقام، ومن ثم حيوات منسية، ربما لا تعيد الكتابة الموتى، لكنها تمنحنا قدرا من العزاء لتثبيت ذاكرة المنسيين.
يختزن وعي اليومي بالحرب ادارك تقويض إمكانية الحياة المتاحة لنا، كبشر فيما تستمر دورة متصاعدة من الترويع والانتهاك والافقار، بدء بمصادرة الحرية الشخصية وانتهاك المواطنة، إلى الحرمان من حقك في التعبير، وتقييد الحرية، وتقليص فرص الحياة الآدمية، فبعد أكثر من عشر سنوات من الحرب، تحولت اليمن إلى جغرافية مقسمة، تتوزع فيها سلطات الحرب والقوى المتحالفة معها، بحيث اقامت كنتونات مغلقة ومسيجة بأعلام دويلات الطائفة والشرذمة السياسية، على انقاض الدولة المركزية، ومأسست أدواتها وأجهزتها لانتهاك المواطنين، من مصادرة موارد الدولة لصالحها، إلى تنمية اقتصاد الحرب حيث دفعت معظم المواطنين إلى دائرة الفقر، فيما فرضت قوانيين جائرة تنتهك حياتهم اليومية، من اعاقة تنقلهم بين المدن اليمنية إلى امتهان كرامة المواطن في الحياة والعمل، وفرضت السلطة الدينية-الطائفية- في العاصمة اليمنية صنعاء على المرأة مستويات اعلى من التقييد والانتهاك والمصادرة وذلك بفرض المحرم كشرط لتنقلها وعملها في انتهاك مروع لمواطنيتها وآدميتها.
العزيزات، الأعزاء
اذا كان الكاتب هو الشاهد على المآسي التي تحدث في مجتمعه، والعين التي ترى وتوثق، فإن سلطات الحرب في بلدي حولت الكتاب والصحفيين إلى هدف لإرهابها المنظم، حيث اصبحت سيفا يسلط على رقابهم، ففي حين قتل العشرات من الصحفيين بنيران أطراف الحرب سواء بغارات الطيران السعودي الاماراتي او بقذائف مليشيات الحوثي فإنهم ظلوا عرضة للاستهداف اليومي، حيث تنوعت قائمة الانتهاك وتعددت مسمياتها بتنوع جغرافية الحرب وسلطاتها، ففي صنعاء الخاضعة لسلطة جماعة الحوثي، أصدرت المحاكم التابعة لها حكم بإعدام ستة صحفيين، لم تسقط حتى الآن احكام الإعدام بحقهم، ويواجه الإعلامي "طه المعمري"، مالك شركة يمن ديجتال حكم بالإعدام غيابياً، فيما يظل الصحفي "وحيد الصوفي" وبعد ثمان سنوات من اعتقاله مخفيا، ولا يعرف مصيره، الى جانب اعتقال العشرات من الكتاب والصحفيين، منهم نبيل السيداوي، وفهد الارحبي، ومحمد المياحي، والكاتب عبدالوهاب الحراسي والكاتب محمد المياحي والإعلامية سحر الخولاني، الى جانب ذلك يقبع اكثر من ستين معتقل من العاملين في المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة، وموظفين سابقين في السفارة الامريكية في صنعاء في سجون الجماعة، من بينهم " رباب المضواحي" بتهم كيدية وهي التجسس لإسرائيل وامريكا، وتوفي في السجون التابعة للجماعة ثلاثة من الكوادر التربوية اخرهم التربوي "محمد خماش"، ومن صنعاء الى مدينة عدن الخاضعة لسلطة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الامارات، حكم بالسجن على الصحفي "احمد ماهر" بتهمة الإرهاب دون أي محاكمة عادلة، فيما لا يزال الصحفي "ناصح شاكر" مخيفا في سجون قوات مكافحة الإرهاب في مدينة عدن المدعومة من الامارات، وفي حضرموت، لا زال الصحفي "محمد المقري"، مخفيا منذ 2015، ابان سيطرة تنظيم القاعدة على مدينة المكلا ولا يعرف حتى الآن مصيره، فيما حكمت السلطات السعودية على الصحفي اليمني علي أبو لحوم بخمسة سنة سجن بتهمة الردة، ولا يزال في السجون السعودية، فيما اعتقل الصحفي اليمني " احمد الزاهر" في دبي، وحتى الان هو مخفي قسرا في السجون الاماراتية.
الأعزاء، العزيزات
ان تجارب الحروب المروعة التي مرت فيها الإنسانية تخبرنا ان احترام الحياة الآدمية ونبذ العنف هو الخيار الوحيد لبقائنا كبشر، لكن المرحلة الدقيقة التي يشهدها العالم تكشف اننا لم نستفد من سرديات الناجين ولا من التراث الادبي الإنساني الذي وثق القتل والموت والدمار، ولا من الأهوال التي دفع كلفتها كتاب وروائيون لينقلوا لنا ماذا تفعله الحرب بالبشر والحياة، بحيث لا زلنا للأسف شهود صامتين على الجرائم التي تحدث في عالمنا، وإن وعينا بالمأساة جزئي، نرى بعين واحدة أحزاننا فيما نغلق أعيننا عن احزان الآخرين، واذا كنا نعيش لحظة فارقة في العالم، حيث تتوسع دائرة الحرب من أوكرانيا، إلى اليمن والسودان، وحتى الحرب في قطاع غزة وفي لبنان أخيراً، يظل العنف دورة متصاعدة ومستمرة من الكراهية والقتل والاباحة، فيما تكشف تغطية الحروب مستوى آخر من التحيز ومصادرة حق الآخر في التعاطف والتضامن، حيث يتم تسييس المعاناة الإنسانية للشعوب وإعادة صياغتها بانتقائية تلبي مطالب جمهور المصفقين للحرب وتجار الأسلحة والحكومات اليمينية المتطرفة التي باتت تغذي الحروب في كل رقعة من العالم، وربما الحرب في غزة تختبر اليوم لا ضمير الكتاب فقط، بل ضمير العالم، فعلى امتداد مدن القطاع، يقتل المدنيون من نساء وأطفال ورضع ويحاصر المدنيين ويموتون من الجوع، بحيث تؤكد لنا هذه الفضاعات أن الحياة البشرية ليست ثمينة بالقدر نفسه في أي جزء من العالم، وان هناك حالة من التوحش والبربرية في تجاهل الألم الإنساني في غزة.
العزيزات، الأعزاء
بقدر ما تتسم به الحرب في اليمن من تعقيد محلي واقليمي، إلا أن استمرار الحرب لا ينفصل عن الأزمات السياسية الدولية الراهنة، كما تقدم حرب الإبادة التي تشنها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني مثالا صارخا عما ستأول اليه الأوضاع في الشرق الأوسط، وربما العالم، ما لم تتكاتف الجهود لوضع حد لهذا الجنون الذي لن يلبث أن يصيب العالم برمته بما فيها الدول العظمى ولنا في الحروب العالمية مثال قريب، ففي حين اعتقد غالبية مواطنو الدول الاستعمارية بأنهم بمنأى عن ما تعانيه شعوب الدول المستعمرة، إلا أنهم أفاقوا على الحرب تضرب بلدانهم وذهب ضحيتها عشرات الملايين من المدنيين الأبرياء.
الأعزاء، العزيزات
أن تهميش المثقف وارتهان السياسي لرأس المال، هو ديناميكا الحروب دائما، اذ طالما نجح رأس المال ومراكز النفوذ في تغليف مصالحهم بغلاف وطني وقومي، عبر السيطرة على السياسي وتهميش المثقف، فالديمقراطية والعولمة اللذان كان يفترض بهما منح القوة والسلطة المجتمعية للمواطن المثقف لكي لا يتكرر نموذج الحرب العالمية صارا مجرد تروس صغيرة يمكن لرأس المال وشركات النفط والأسلحة فصلها عن المجتمع وصناعة القرار، ليس فقط بخصوص الصراع الدولي الدائر، بل وقبل ذلك فيما يتعلق بحقوق مواطنيهم والتزامات الدولة، فبدعوى التنافس الاقتصادي والتنمية تنازلت الدول عن التزاماتها تجاه مواطنيها، في الصحة والتعليم والعمل لصالح الشركات، بحيث غلبت ربح الشركات على حساب التأمينات الصحية والحد من البطالة؛ فصوت وتأثير المواطن اليوم، المثقف والنقابي والمصلح الاجتماعي، هو اخفت بكثير مما كان عليه قبل وخلال الحرب العالمية، بسبب سيطرة رأس المال على قرار السياسي ووسائل الإعلام، وما صاحب الطفرة التقنية من ضياع صوت المثقف أمام فقاعات السوشيال ميديا المملوكة لرأس المال، وهو أمر اعتقد انه سيترتب عليه عواقب وخيمة على كل الانسانية.
العزيزات، الأعزاء
الكتابة ترويض لليومي على اكراهاته في السلم وفي الحرب أيضا، وانا اكتب لأتصالح مع نفسي ومع العالم، من صنعاء مرة أخرى اشكركم على منحي جائزة الكاتب تشولوسكي، وعلى هذا التكريم، وفي الأخير فإن قيم تشولوسكي ككاتب عاش وعبر عن قناعاته كتابة في ظل سطوة النظام النازي ودفع حياته ثمنا لذلك، تحيلنا الى جسارة الكاتب والى درب طويل قطعه ولايزال يقطعه الملايين من الكتاب في العالم، برفض الظلم والانحياز لكل ما هو انساني وجمالي، وأيضا اعلاء المشترك الإنساني والانحياز لقيمها ولاستمراريتها ما دامت الحياة باقية على هذه الأرض.
بشرى المقطري
صنعاء